سلسلة فلسفة القيم – قيمنا … و قيمهم ؟ !

المفكر المصري العظيم د. سيد القمني

سلسلة فلسفة القيم – قيمنا … و قيمهم ؟ !

ضمن سلسلة قضايا إسلامية التي تصدرها وزارة الأوقاف الإسلامية ، تم حشد عدد من المؤلفات تعني بفلسفة القيم ، و كالعادة لن تجد فروقاً واضحة لا في الأهداف و لا في المنطلقات بين كتاب و آخر في هذه السلسلة القيمية ، ربما اختلف الأسلوب بين كاتب و زميله ، لكنها في النهاية تقول شيئاً واحداً تؤكد عليه دوماً ، هو أن القيم لا تكون صحيحة و سليمة إلا إذا كانت في الأديان ، ومن بين الأديان تسمو على الكل قيم الإسلام ، و غير ذلك من فلسفات للقيم منذ سقراط و حتي اليوم هي باطل الأباطيل و قبض الريح ، إن لم تكن هي الفساد نفسه .
سأعمد هنا إلى كتاب يشكل نموذجاً مثالياً لكل زملائه ، و قوله فيه هو تغريدة السرب كله . و هو كتاب ( القيم الدينية و ثقافة العولمة ) ، و الذي دبجه الدكتور الصاوي الصاوي أحمد ، لنناقش من خلاله ما يطرحه علينا حماة الإسلام و رعاة الدين و مفكريه .
كي يقدم الدكتور الصاوي فلسفة الإسلام في القيم ، يبدأ أولاً بإدانة كل القيم في العالم غير المسلم ، فيقول : ” إن القيم المادية الوضعية تنزل بصاحبها إلى درجة السقوط ، و ذلك يرجع إلى طبيعة مستواها المادي المحسوس ، الذي يجتذب الإنسان و يحركه نحو الفساد و الطغيان لا نحو الإصلاح ” . و من ثم يبني على هذه الفرضية ( أو الحقيقة من وجهة نظره ) استطراده و هو يقول : ” و بسبب السمو الذي تتميز به القيم الدينية . . فإنها تفي بحق الإنسانية ، و تخرج الإنسان الذي عانى بسبب بعده عن الدين الصحيح ، من القلق و الإضطراب و التعاسة و فقدان مشاعر الأمن ، . . و انتشار الجريمة و العنف و الإدمان و الأمراض النفسية و العصبية و زيادة نسبة الإنتحار، و الطلاق و الإغتصاب و القتل و سيطرة مشاعر الإغتراب و الوحشة و البؤس و الرعب الذي ساد معظم دول العالم المتقدم ” . و تأسيساً على هذه الصورة البغيضة الذي رسمها سيادته لمجتمعات تخلت عن القيم الدينية و انغمست في قيم مادية دنيوية شريرة بالضرورة لا يبقى سوى قوله : ” إن القيم الدينية .. هي من أهم القيم على الإطلاق . . و هي الأساس الذي تنطلق منه جميع القيم الحاوية لكل القيم النبيلة ، فهي تفوق جميع القيم . . و ترجع أهميتها إلى أن الدين هو أساس القيم و الوعي بها و الساعي دائماً إلى تدعيمها ، و هي قيم روحية قادرة على هداية حقيقية لأنها من صنع الله الذي خلق النفوس و أوردها فجورها و تقواها . لقد أرسلت الأديان جميعاً و علي رأسها الإسلام ، قيماً منزهة عن كل منفعة شخصية / ص 38 ، و ص 35 ” ، تدهشك جرأة هؤلاء القوم على العلوم بكل أصنافها من الكيمياء إلى الفيزياء و إلى الطب إلى الفضاء ، و الفلسفة !! كل ميدان صار مستباحاً لهم إلا ميدانهم لهم وحدهم دون غيرهم ، رغم أن القرآن الكريم و السنة النبوية لم تكن تعرف شيئاً مما يقوله فقهاء أيامنا . و حسب الكتاب و السنة فإن ما يحرك الإنسان نحو الفساد و الطغيان هو الوسواس الخناس الذي يوسوس في صدور الناس ، و لم يقل لنا الله شيئاً عن القيم المادية الوضعية التي يبخسها مشايخنا كل التبخيس لكونها غير صادرة عن الإسلام .
و أحياناً لا تفهم سر حملتهم الشديدة على كل ما هو مادي موضوعي وضعي ، رغم أن آدم حسب النظرية الدينية مخلوق مادي ، و الحجر الأسود مادة ، و الكعبة نفسها أحجار مادية و كذلك كسوتها ، و مقام إبراهيم و إبليس ، كلها أحجار مادية و مع ذلك هي عندنا أسمى المقدسات ؟ !
و بدون شعيرة الرجم المادي بالأحجار ترمي على إبليس الحجري المادي يفسد الحج من أصله . ناهيك عن كون القيم الإنسانية أو الوضعية أو بمسماها الفلسفي الاكسيولوجية ( الحق و الخير و الجمال ) تخاطب روح الإنسان لا مادته ، و الأمر على العكس مما يقول فقهائنا ، لأن القيم الدينية تخاطب المادة قبل الروح ، فقد حارب الرسول و الصحابة من أجل السيطرة و السيادة و الغنائم المادية البحت ، إضافة بالطبع إلى نشر الدعوة . و حارب الصديق من أجل الزكاة ، و حارب خالد بن الوليد و عمرو بن العاص و القعقاع و خيرة الصحابة الأجلاء من أجل الفيئ و الجزية ، بل و تصارع كبار الأجلاء منهم على عرض الدنيا المادي ، كما حدث بين الزهراء و بين الصديق بشأن ميراثها ، و كما حدث في حروب دموية رهيبة من أجل السيادة و الجاة حتى ضرب المسلمون كعبتهم بالمنجنيق ، و حتى قتلوا خليفتهم و خاضوا الفتنة الكبرى ، و حتى اقتحم المسلمون مدينة رسول الله و استباحوا فروج الصحابيات بنات الصحابة ، و حتى ذبح المسلمون آل بيت الرسول في عملية إفناء مخزية ، و طال الإقتتال الشيعي السني حول المسلمين كميراث مادي ، هل هم ميراث ولاد فاطمة وحدهم أم هم ميراث قريش على المشاع ؟ …. وحتي يومنا هذا !! .
فأين كانت قيم الروح و الدين في كل هذا الذي حدث في تاريخنا الرهيب الملطخ بدماء الأبرياء ؟ و هي مجازر لم يكن فيها مكان لحق ، بعد أن زعمت كل فرقة أن حقها هو الصواب المطلق وحده و غير باطل ، و لم يكن فيها أى خير بقدر ما نالت شرورها عموم الناس مسلمين و غير مسلمين ، و ما كان فيها أى شئ يمكنك أن تصفه بالجمال ، و لم يكن فيها مكانا للدين ، بعد أن فرض كل فريق وجهة نظره إسلاماً يحارب به إسلاماً مارقاً لدي الفرقة الأخرى ، فضاع الإسلام و بقيت الفرق المتحاربة على عرض الدنيا فرقا إسلامية ، احتاج كل منها الشرعية فظهرت الأحاديث وظهر المشايخ عند كل طرف يقدم لة الشرعية ودعم السماء .
المشكلة مع مثل هذا الخطاب الفقهي هو قلبه للحقائق عن قصد مبيت و سابق علم و ترصد ، ليصور للمسلمين حالهم و كأنهم قمة البشرية و سنامها المقدس الحافظ لكل القيم الأخلاقية ، لذلك ينعمون بالسعادة ، و أن غيرهم يعيش البؤس و الشقاء و التعاسة . و هو لون من الكذب و الغش و التدليس ، مع صرف متعمد للناس عن واقعهم المهين الذي وصل إلى أقصى درجات تدنيه ، صرفهم عن محاولة إصلاح هذا الواقع ، إطمئناناً إلى أن أهل الغرب الطاغوتي و بقية دول العالم المتقدمة الكفرية ، لا تحلم بما نحن فيه من عز و رفاة و سعادة بفضل قيمنا الأرقى ، و أن قيمنا الأخلاقية هي الأصح بالمطلق لأنها صيغة ربانية كاملة المواصفات سابقة التجهيز ! !
نفس الأغنية ترنمها بقية المجموعة التي تناولت فلسفة القيم في سلسلة وزارة الأوقاف ، كلها تندد بأخلاق المجتمعات الغربية حتى تكاد توحي إلينا بأنه مجتمع من الحيوانات أو أدنى ، بل و تصرح بذلك كتب الفقه التي يدرسها أبناؤنا في مدارسنا و تؤكد ” أنها مجتمعات حيوانية أقرب إلى البهيمية ” . إنه ذات الأسلوب العربي في شعر الفخر و الهجاء البدوي .
و لا يقولون لنا كيف أمكن لذلك المجتمع المنحل الخرب ، أن يخلص البشرية جميعاً دون تمييز بين الناس لا بحسب الدين و لا الجنس و لا الطائفة ، من أمراض الطاعون و الدفتريا و شلل الأطفال و الجدري و الكوليرا و بقية الأمراض الوبائية الفتاكة ، و هي أمراض عجزت الدنيا قبل الغرب الكافر عن مواجهتها ، علماً أن هذا التاريخ كان يضم أنبياء كانت تكفي دعوة واحد منهم لرفع هذه الأوبئة، وهو ما لم يحدث و لا مرة واحدة .
إن فقهاء زماننا لا يقولون لنا كيف تمكن أهل المجتمع الغربي الأنجاس الملاعين بقيمهم السفيهة ، من توفير الطائرات التي قصرت رحلة حجنا العسيرة إلى مكة من ثلاثة أشهر نضرب فيها أكباد الإبل ، إلى ساعتين من الرفاهية و المتعة و التسلية الرفيعة و المعاملة الإنسانية الكريمة . و كيف حولت الكعبة من بناء بدائي إلى بناء غاية في الفخامة بهندسة و مواد إنشاء كلها من بلاد الطاغوت .
في النهاية من تلك المجموعة من الكتابات لا يخرج المسلم سوى بحالة من الكراهية لهذا الغرب ، هي كتابات تعيش حالة تحريض مستعر غير مفهومة ، لنبقي مع قيمة القناعة التي هي كنز لا يفني بما لدينا من الفقر و الجهل و المرض و التخلف ، حتى بتنا القاع الذي تنتهي إليه مزابل الأمم و نفاياتها ، مع الحث على التمسك بقيمنا و حمايتها من أى تأثير قد يصيبها من قيم الغرب الذي نقنع أنفسنا بأنه تعيس ، و دون أن يشكو لنا أحداً في هذا الغرب من أية تعاسة يعانيها .
و إذا كانت القيم الدينية و بالذات الإسلامية تفوق جميع القيم ، فهل يعني ذلك أن كل الشعوب و الأمم التي لم تعرف الأديان السماوية مثل ( اليونان القدماء : الإغريق ، و الرومان و الفرس و الفراعنة والبابليين والآشوريين و الهنود الحمر و المايا و الأنكا و الهند و شرق آسيا كلة ) كلها كانت أمماً بلا قيم ؟ فهل يمكن تصور قيام تلك الحضارات الكبرى الباقية شواهدها حتى اليوم أعلاماً للعالمين ، دون نظام قيمي معتبر ؟
مثل هذه الرؤية العنصرية كانت سمة أوروبا في عصورها الوسطى و ما بعدها بقليل ، عندما أفتى رجال الدين المسيحي بأن سكان أمريكا الأصليين ليسوا من الآدميين و لا يملكون روحاً بشرية مثلنا لان ليس لديهم قيماً دينية مسيحية ، و من ثم سوغت الأخلاق المسيحية للمستوطنين المسيحيين إبادة هؤلاء الوثنيين .
كان يسكن تلك البلاد بشراً لا يعرفون الله الذي نعرفه و لا القيم التي تحكمنا ، و حكم عليهم صاوي مع من أبادوهم أنهم لم يكونوا بشراً لأنهم لسوء حظهم لم يظهر عندهم أنبياء ليدلوهم على القيم الدينية .

د. سيد القمني

2007 / 11 /6

#سيد_القمني (هاشتاغ)

Please follow and like us:

فكرتين عن“سلسلة فلسفة القيم – قيمنا … و قيمهم ؟ !”

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *