فلسفة القيم 4 – نحو تأسيس ثقافة للقيم التحريم بالأمر والنهى

المفكر المصري العظيم د. سيد القمني

فلسفة القيم 4 – نحو تأسيس ثقافة للقيم التحريم بالأمر والنهى … شر توقفة الحرية …..!!

نحو تأسيس ثقافة للقيم
التحريم بالأمر والنهى … شر
توقفة الحرية …..!!
القيمة هي ناتج تفاعل الفكر الإنساني مع الأشياء المادية و مع الأفكار و المعاني ، القيمة هي قدر أو رتبة أو ثمن ، هي درجة تمييز تترتب تسلسلياً على درجات ، و أدوات قياس القيمة إنسانية نسبية ظرفية ، لأنها مجموع معارفي و علومي التي حصلتها في عصري . و للتبسيط غير المخل مثلاً لو أخذنا لوحة ( الموناليزا ) لزمن الأنبياء و طلبنا تقييمها ، سيتم تقيميها على الأكثر بثلاث دراهم ، درهماً للخشب و درهماً للبوية و درهماً لقطعة القماش ، فقيمتها تتشكل حسب مخزونه المعرفي و خبرته و علومه . و عصا توت عنخ آمون عند البدوي البدائي عصاه كأى عصي ، العلم هنا يتدخل ليمنحها قيمة لم تظهر إلا بعد كشف حجر رشيد و فك رموز الهيروغليفية ، فيقول لنا : ” أن هذا العصا لا تقدر بثمن فقيمتها فوق التقييم ” ، لذلك يضعها في المتاحف ليراها كل الناس كحق قيمي مشاع ، و يحيطونها بكل ألوان أجهزة الإنذار حرصاً عليها و حماية لها . كذلك لو قارنا زمن نبي الإسلام بزماننا ، فمن الجيد و الجميل أن تقرأ حديث النبي عن عزل المرضى بالطاعون في رؤية ثاقبة ممتازة لزمنها ، لكن زماننا قضى بالعلم البشري على الطاعون نهائياً بعد أن كانت مواجهته تتم بأدعية لا تستجاب .
و الخبرة تزيد القيمة أو تنقص منها ، و هكذا فإن الله لم يخلق القيم و إلا كانت ثابتة ثبات القرآن ، أو لكان خلقها للكلاب و الحمير و أرسل لهم الأنبياء ليدلوهم على قيمهم . و هو ما يعني أنه بدون حضارة إنسانية لا توجد قيم ، لأن حكم القيمة سيصدر على منتج حضاري مادي أو فكري أو سلوكي ، بينما آدم في الغابة كان يفعل وفق الغرائز ولم يكن بحاجة لنظام قيمي .
و إن إصرار فقهائنا المحدثين على شئ لم يرد في نص إسمه ( القيم الإلهية / الدينية / الإسلامية بالطبع ) ، فهو ما يعني أن لله قيماً يراها صالحة لعباده و علي العباد التشبه بهذه القيم الربانية . هذا رغم أن آلهة جميع الأديان يفترض أنها كانت موجودة قبل وجود الإنسان ، و هي بهذا المعنى ليست بحاجة لأى قيم ، لأن الأرباب حسب العقائد الإيمانية هي معصومة ، و ليس لها بالقيم من حاجة ، ليست بحاجة لمعايير تثمن بها أفعالها ، فهي ليست تحت الحساب ، و لا هي تحاسب نفسها ، و القيم و الأخلاق تفترض ضميراً داخلياً بالضرورة يحاسب و يقمع و يزجر ، و هو أمر لا يجوز افتراضه مع الإله الذي لا ولد له و لا مأكل و لا مشرب و لا مسكن ، و ليس بأى حاجة لأدوات تشبع حاجاته حتى يمكن تقييمها ، ليس له حاجة لأنه هو الكمال المطلق ، بغير حاجة لأى قيم لأنه لا يراجع نفسه و لا أحد يراجعه . و الله لا ينتج إلا الصحيح من السلوك ، لذلك هو ليس بحاجة للقيم التي تفاضل بين السلوك الصحيح و السلوك الخطأ ، الله صواب مطلق .
لذلك فإن الإنسان وحده هو مناط التكليف الديني و الإنساني أيضاً ، فهو الذي يمتلك حرية الاختيار ضمن خلقته ، لذلك يكون مسؤولاً عن القيم الأخلاقية أمام المجتمع الإنساني و قانونه و أمام الله أيضاً . أما الله نفسه فهو على العكس تماماً من ذلك ، إنه لا يُسأل و هم يسألون ، و من لا يُسأل لا يكون بحاجة لقيم أخلاقية ، و إذا كان الخلق يخضعون لقيم قررها اللة عليهم ، فمن العسير تصور الخالق خاضعاً لما خلقه من قيم ، فهو لا يخضع لشروط و ليس لفعله حدود . لذلك تكون محاولة توصيف فعال الرب وفق معايير قيمية أمراً غير جائز لأنه يكون مُساءلة للرب ، و مساواة لفعال الرب بفعال خليقته ، لذلك فإن خلط الدين بمفاهيم هي من ابتداع الإنسان ، و قيم هي خلاصة خبرات مجتمعية طويلة ، يسيئ إلى الدين و ربه ، لذلك لنترك الدين و ربه و ننصرف إلي إصلاح واقعنا القيمي بأيدينا ، أما الله فهو يخلق ما يشاء و كيف يشاء و حين يشاء و لا معقب على مشيئته ، و ما يفعله فقهاء زماننا أنهم ينزلون الكامل من عليائه إلى رتبة مخلوقاته ، بما يساوي بين الخالق و المخلوق ، بتطبيق ذات المعيار القيمي على كليهما . و هذا كله إنما يعني أن القيم مسألة إنسانية بحت ، لا علاقة لها بدين من الأديان .
و القيمة كي توجد لابد أن تفترض الحرية في من يقوم بفعل المعايرة و التقييم لينتقي ما يناسبه من قيم ، لذلك تختلف قيم الحجازي عن قيم الإنجليزي ، أما فاقد الحرية كالملائكة فلا يمكن وصف فعلها بأنه خير أو شر أو ذو قيمة صحيحة أو باطلة ، فهي لا تملك إلا الطاعة دون اختيار ، كذلك النبي ، مثله – مع فارق التشبيه – كمثل السلك الموصل للتيار من المصدر المولد إلى المصباح ، لا يتدخل إنما يبلغ فقط ، لذلك هو غير حر في قراراته ، و ليس بدوره بحاجة إلى التقييم و المعايرة .
و لا يبقي لدينا سوى الإنسان الذي يسعي لتحقيق ما يحتاج و يملك حرية الاختيار ، فالقيم كلها صناعة بشرية ، صنعها المجتمع الإنساني عندما ارتقى عن حيوانيته البدوية الأولى ليدير مجتمعه بما يفي بحاجاته ، و طور من تلك القيم مع كل نقلة تطورية حضارية مادية . و لم ينزل الإنسان من الجنة مزوداً بنظرية فلسفية متكاملة في القيم ، إنما اعتمد على المحاولة و التجربة و الخطأ و الصواب ليختار ما يراه صواباً و يستبعد ما يراه خطأ ، و يبقى على المفيد و يستبعد الضار .
السادة أهل الدين ينسبون للدين ما لم يكن فيه ، لأن فلسفة القيم نسبية متطورة ، و ما وصلت إليه اليوم لم يكن معلوماً في معارف الأقدمين ، إن النظرية النسبية لم تكن معلومة قبل آينشتين ، و مشايخنا كمن يقول لنا : إن الخليفة أبي بكر قد عرف النسبية ، و مثلها بالضبط : أن الصحابة قد عرفوا القيم . أهل الدين في بلادنا كل غرضهم تسفيه عالمنا المعاصر خاصة في البلاد المدنية المتقدمة ، كي لا يبقي صحيحاً سوي ما نعتقد ، لأننا خير أمة أخرجت للناس و بقية العالم بهايم ، و كي نكون على صواب ، لابد أن تكون الدنيا كلها على خطأ ، حتى لو كان الواقع على أرضنا يقول بعكس رؤيتنا بالكلية .
و لعل ما يرد على نظرية الخلق الرباني لقيم دينية كاملة منزلة من السماء ، هو ذلك التطور الذي لحق بالقيم على يد الأنبياء ذاتهم ، و هم أنبياء ذات الإله ، و مع ذلك جاء المسيح فنسخ شريعة موسى بنظام جديد ، و جاء محمد ( ص ) ، فجب إسلامه كل ما سبق جباً ، و الموقف المنطقي السهل البسيط هنا لابد أن يقف عند أحد احتمالين لا يجتمعان ، فإما أن نقول و نقر بأن النبي الثاني جاء بقيم من أفكاره هو و غير ربانية بدليل مخالفتها للنبي الأول ، بينما اللة واحد !! فيكون النبي الثاني قد خان ربه !! و إما أن نقول و نقر بالتطور على كل المستويات ، و هو ما يستدعي الاعتراف بعدم وجود قيم دينية ثابتة لا تتغير حسب المفهوم من الدين ، و هو ما يرفع الإصر عن الأنبياء .
و إن إحالة القيم إلى الدين و ربه يجعلها جبرية ، و الجبري لا يعطي الماديات قيمتها الحقيقة ، كالتسعير الجبري للسلع في الأزمات ، بينما السوق الحر هو ما يعطي السلعة قيمتها الحقيقة حسب العرض و الطلب ، لذلك فإن التقييم الذي تجبرني عليه السلطة او الدين أو الإعلام الموجه ، إنما يشكل وعياً زائفاً و قيماً بلا معنى و بدون دلالة واقعية .
و لمزيد من التبسيط نجد الإسلام يجعل المسلم لا يعطي للذهب كوسيلة زينة أى قيمة ، بل هو قيمة سلبية محرمة على الرجل المسلم ، و مثله الحرير ، بينما يترك للمرأة منح ذهب الزينة قيمتة ، و الموضوع واحد ، و المصدر واحد ، هنا لا يقوم الخلاف حول قيمة الذهب لارتباط القيمة بالحلال و الحرام ، و الفارق بين الرجل و المرأة ، فإذا تحدثنا عن القيم إسلامياً لن تجد اتفاقاً ، فللذهب هنا قيمتين قيمة سلبية بالنسبة للرجال ، و قيمة إيجابية بالنسبة للنساء .
و للتمييز بين مفهوم الحرام و الحلال و بين الصواب و الخطأ ، نجد أن من يعرف الحلال و يفرزه و يجنبه عن الحرام هو الدين ، و كلاهما – الحلال والحرام – تم تبليغه للمسلمين من رب العزة ، و المحاسبة عليه قد تكون في الدنيا و قد تكون آجلة بعد البعث و الحساب ، و يمكن العفو عن كل العقوبات بالتوبة و المغفرة و إسقاط الآثام عدا الشرك بالله ، و هو شأن كله رباني لا دور فيه للبشر بالتعديل أو الإلغاء ، أما مفهوم الصواب و الخطأ فهو أمر دنيوي بحت يتعلق بأعمال الإنسان من فنون و إدارة و طب و هندسة ، و هي مجالات لا مكان فيها لمفهوم الحلال و الحرام ، فهي لا تعرف سوى الصواب و الخطأ ، و العلم هو من يضع لها معايير الصواب و الخطأ ، فحفظ المواد الغذائية في درجة حرارة معينة يكون صواباً ، و في درجة حرارة أخرى يكون خطأً ، و إن إديسون أصاب باختراعاته لكن ذلك لن يؤدى بالتأكيد إلى دخوله الجنة ، و الذي يخطئ في امتحان الرياضيات و يرسب لن يدخل جهنم ، و الموظف الذي يخطئ يعاقب طبقاً للقواعد التى أعدها البشر حسب الخطأ و الصواب و ليس حسب الحلال و الحرام .
قد تصل العقوبة إلى فصل الموظف أو حبسه ، لكنها أبداً لا تصل إلى الجلد أو الرجم أو الخلود في العذاب مهاناً ، و الذي يحصل على جائزة نوبل ليس بالضرورة أن يكون مكانه الأخروي هو الفردوس الأعلى ، و الفشل في إطلاق صاروخ لن يدخل صاحبه جهنم . لذلك فالقيم هى إبداع إنساني خالص لا علاقة له بدين من الأديان .
سألجأ هنا إلى تعريف القيمة كما أوردتها أستاذة علم الاجتماع الدكتورة فوزية دياب في كتابها القيم : ( القيم و العادات الاجتماعية ) ، و هي دكتورة علم لا دكتورة دروشة وروشنة فيما ينطق بة كتابها ، لذلك تعطينا تعريفاً واضحاً ،غير ملتبس ، فتقول ( ص 29 ) : ” القيمة هي الاعتقاد أن شيئاً ما ذا قيمة و قدرة على إشباع رغبة إنسانية ، و القيمة هي صفة الشئ التي تجعله ذا أهمية للفرد أو الجماعة ، و هي حقيقة سيكولوجية ليست قابلة للقياس . و لابد من تمييز القيمة تمييزاً دقيقاً عن المنفعة لأن حقيقتها تكمن في العقل البشري لا في الشئ . . فالشئ ذو المنفعة الزائفة تكون له القيمة نفسها كما لو كان حقيقياً إلى أن يكتشف هذا الخداع ” .
و لو طبقنا هذا التعريف على كلام فقهائنا سنجده يتحدث عن قيماً زائفة خداعية تبدو لنا حقائق ، فيكون لبول البعير قيمة مقدسة رغم قذارته و ضرره الأكيد ، و يكون إرهاب الآمنين و ترويعهم عملاً شريفاً بل و قمة من قمم نبال الفعال بالاستشهاد لأن هذا ما يتطلبه الخير الإلهي ، و من ثم تظهر القيم التي ينسبونها للدين مشوشة على العقل البشري ، لسبب بسيط هو أن قواعد الدين غير قابلة للنقاش أخذاً و عطاء و نفياً و إثباتاً بالعقل البشري ، لذلك تؤدي بصاحبها إن حاول إلباسها غير ما فيها إلى أحكام خاطئة تقوم على مسلمات خاطئة ، فتؤدي إلى نتائج كارثية لا علاقة لها بأى قيم . و للتوضيح بالمثال ، فإن طقس الذبح في الحج هو قربان للإله ، بينما هو في نظر القيم الإنسانية إهدار بلا ثمن لثروة حيوانية هائلة ، و عملية وحشية بلا معنى تجز ملايين الخراف دون أى عائد سوى تركها لتتعفن ، و ظل أمرها طويلاً محل أخذ و رد حتى أمكن التصريح بتعليبها و تصنيعها . ناهيك عن رجم إبليس الحجري و تقبيل حجر نيزكي و تقديسه و الطواف حول بناء حجري ، كلها طقوس دينية يقبل بها المؤمن و يسلم و يطيع ، لا مجال فيها لمناقشة أو حوار ، لذلك يجب ترك الدين ديناً ، و عدم خلطه لا بعلم و لا بفلسفة ، فهو غير قابل للمناقشة ، و خلطه بغيره يصيب العقل بالاضطراب ، و يصيب الواقع بالكوارث ، و يصيب الدين بما لا نحب و لا نشتهي .
أضف إلى ذلك لابد أن يتبادرإلى الذهن السؤال حول قيم مثل سبي الجواري و نكاحهن في أرض المعركة كما حدث في غزوات النبي و بخاصة في خيبرحيث فشى إتيان الحبالى بجوار الأب أو الزوج المذبوح ، حتى نهى النبى عن وطء الحبالى ، وحتى نهر بلال بن رباح وهو ينكح إحداهن الى جوار أهلها القتلى ، في عمليات هتك عرض جماعي علني للسبايا ، و تحويل الأسرى فى حروب الفتوحات من أحرار إلى عبيد يباعون في الأسواق ، و كذلك مسألة ملك اليمين والجواري ، و كذلك مصادرة ممتلكات الشعوب في نظام الفيئ الإسلامي ، كلها دين نسمع له و نطيع ، لا نلتمس له تبريراً ، و لا تجميلاً ، فهو ديننا الذي نؤمن به كما هو دون شعور بخجل أو عار ،ونحبة دون حاجة لمبررات ، لأن قيم زمانة لا علاقة لها بما نفهمه اليوم عن القيم .
لذلك تؤكد الدكتورة دياب : ” إن القيمة مسألة إنسانية و شخصية و ليست شيئاً مجرداً مستقلاً بذاته عن السلوك الشخصي ، بل هي متغلغلة فيه لأنها تنبع من نفسه و من رغباته لا من الشئ الخارجى ، فالأشياء من وجهة النظر الطبيعية التجريبية حيادية ، أى ليست في ذاتها قبيحة أو جميلة إنما هذه أحكام نصدرها عليها ، هي القيم المنبثقة عن اهتمامنا / نفس الصفحة ” .
إذن فالقيم كما يتحدث عنها الفلاسفة و المفكرون و علماء النفس و الاجتماع هي شئ لا علاقة له بدين من الأديان من قريب أو بعيد ، و ليس أدل على ما أقول هنا ، ان السلف الصالح و الدين نفسه لم يبحثوا موضوعها كما يفعل فقهاء زماننا اليوم .
و إذا كنا كمسلمين نعتقد أن ديننا قد ولد كاملاً غير منقوص و لا يعاني من قصور لأنه يمثل قدره صاحبه الكامل ، فإن ما يفعله فقهاء المسلمين المعاصرين من محاولات ربطه بكل كشف و كل حدث و كل علم و بكل فلسفة ، يعني أنهم يشعرون مع كل جديد بنقص في دينهم لم يتوفر فيه هذا الجديد ، فيقومون بمحاولة استكمال هذا النقص بالإضافة إلية و الزياده فيه ، و هذا هو تعريف البدعة المكروهة في الإسلام . فالدين لا حاجة به لبشر يستكملونه لأنه قد ولد كاملاً ، إما أن نؤمن به بكليته ديناً أو لا نؤمن ، لكن لا ندلس و لانكذب كما يفعلون وهم المتحدثون بإسمه ، كذلك الدين ليس من صنع جيل من البشر ، حتى يحق للأجيال التالية التعديل فيه بالإضافات المتكاثرة مع كل محدث .
هذا ، ناهيك عن كون الدين الإسلامي لم ينتقد القيم الإنسانية الوضعية ( الإكسيولوجية ) بأى من أصوله قرآناً أم سنة ولم يندد بها ، رغم وجود هذه القيم قبل ظهور الإسلام بقرون متطاولة عند فلاسفة اليونان ، و قد سكت عنها الإسلام و عن ذكرها و عن انتقادها إيجابياً أو سلبياً ، لأن الله كان عالماً بطبيعة مجتمع الرسالة الخاتمة ، و عجزه عن استيعاب موضوع القيم ، و ترك لأجيال المسلمين اللاحقة حين تكتمل نضجاً و رقياً لتدرك القيم و تسعى إليها ، و هو ما فعلته في التاريخ الإسلامي عن جدارة ، الدولة العباسية حتى زمن الرشيد و المأمون . و لا تعلم لماذا كل هذا الجهد من دكاترة الأزهر و الأوقاف في تدييج كتب الكراهية و مهاجمة ما لم يهاجمه الله و رسوله ، و يعيبون ما كان سبباً في نهضة عباسية ……و هي نقطة الضوء الوحيدة في تاريخنا المخيف .
و ليس الإسلام وحده هو ما ننكر صلته بأى قيم بمعناها الدقيق ، بل ننكرها على كل الأديان ، فبينما القيم لازمة و ضرورية لحياتنا العملية الدنيوية ، فإن تعاليم الأديان تهمش الدنيا و تحقرها كمادة فانية ، وما وجدت الدنيا لا لتكون معبراً نبتلي فيه و نمتحن ، فإن الدنيا ليست سوى مصيدة ، تصطاد منها جهنم فرائسها ، و على المؤمن التقي أن يستثمر وجوده في هذه الدنيا ليستزيد من العبادة و أداء الطقوس و الفروض و الشعائر و البكاء و الزهد و التهجد و الانقطاع بحيث لا يقيم لها وزناً ، لأنها في النهاية دينا فانية زائلة لا أمل يرجي منها ، و ما المؤمن إلا عابر سبيل فيها نحو الأبدية .
هذا بينما فلسفة القيم تقوم أساساً على حب الحياة الدنيا و احترامها و العمل على صلاح هذه الحياة و صيانتها ، لأنها محل ممكنات فعلنا و قدراتنا ، فالحياة الأخرى الأبدية لا دخل لنا فيها و لا ممكنات لدينا لتغييرها ، فلسفة القيم تتوج الاجتماع البشري بإرساء مفاهيم كالحريات بألوانها و الكرامة و المساواة و المحبة بين الناس ، و رفع الظلم و إحقاق الحق و عشق الجمال و صنعه و إبداعه فنوناً ترقى بالحس و الروح ، و وضع القوانين اللازمة لحماية هذه القيم من التعدي عليها أو كسرها بما يتماشى و مصلحة المجتمع لا مصلحة الدين و لا مصلحة أى إله كان .
و الحقيقة الواضحة أن الدين لا يعطي قيماً لأنه لو أعطاها فستكون صارمة ثابتة ، و لأن الله يعلم كما يعلم البشر أن للقيم درجات غير ثابتة و نسبية ، لذلك لم يعطينا الله قيماً دينية لأن الدين مجموعة أوامر و إملاءات . و الدين نفسه يوظف حكاية إبليس توظيفاً يؤدي إلى نتيجة مفادها : ” أن الأوامر و الإملاءات هي السبب الأول في ظهور الشر ” ، فحسب القصة الإسلامية نجد أنه قبل خلق آدم كانت الملائكة ، و هي مصممة للتعبد و الطاعة فقط ، لذلك فعلها كله لايمكن وصفة بالخير أو بالشر ، و لم يعرف الكون الشر حتى ظهر آدم ، و كان أول شر هو ماارتكبه إبليس ، و مصدرة ( أمر و إملاء ) من الخالق ليسجد إبليس لآدم ، و هو ما انتقص من تصميم إبليس و تركيبه الخلقي ، فداخل هذا التصميم مبدأ ثابت و هو ألا يسجد لغير الله ، فأطاع تكوينه و خلقته التي هي بمعنى من المعاني مساحة حريتهالوحيدة المتاحة لة ، و من ثم كان الأمر انتقاصاً من هذه الحرية و أمره الله بالسجودلإثنين آدم واللة وهو بعكس الكتالوج الموجود بداخله و الذي يعتقد أنه هو كل الحرية ،فالعبودية للة مصممة باخل خلقتة ولا شيء أوبدائل أخرى متاحة للإختيار ، فهو اختيار واحد إن جاز التعبير، هى الحرية ذاتها لأنة لن يسجد لسواة ، فكان أن رفض السجود لآدم ، و كان الشر الأول في تاريخ العالم بعصيان الخالق الذى أربك مخلوقة مابين فطرتة التى فطرة عليها وبين أمرة لة بالسجود لغيرة . كان رفض إبليس السجود لغير الله هو أول الشرور ، لأنه مارس حريته المتفقة مع خلقته فى عدم السجود لغير اللة ، و اختار ضد الأمر و الفرض والإملاء ، و عليه . . . إذن عندما صدر الأمر الأول………… جاء الشر الأول !!.إبليس و تمسكاً منه بتوحيد الله و تنزيهه رفض السجود لغيره ، خاصة و أن هذا الغير أدنى من الله مرتبة و أدنى من إبليس نفسه درجات ، فعصى إبليس ربه فظهر الشر .
ملمح آخر تتضمنه ذات الحكاية ، فمع أول أمر لآدم بعدم الأكل من ثمرة بعينها ، صاحبة ظهور الشر بالتمرد على الأمر ، لأن كلا الأمرين : احدهما أنقص من حرية إبليس في عدم العبودية لغير اللة ، و ثانيهما أنقص من حرية آدم في الاختيار الذى هة خاصيتة الخلقية ، و هو مصمم تكوينياً ليكون حراً مختاراً حتى يمكن تفعيل عقيدة الحساب يوم الدين بمسؤليتة عن فعالة التى اختارها بخلقتة الحرة . فحدثت أول الشرور ، لأن الأصل في الخلق البشري هو الحرية المطلقة غير المقيدة بقيم ثوابت رواسخ لا تقبل تبديلاً على العكس تماما من حال إبليس . أى أنة على أى حال بين النقيضين فإن الأصل في الخلق هو الحرية ، حرية إبليس فى ألا يسجد إلا للة ، وحرية آدم فى الاختيار دون حد هذة الحرية ، في درس رباني بليغ يشرح كيف جاء الشر بعصيان الرب من أعرف الخلق به و أقربهم إليه ، من إبليس طاووس الملائكة ، و من آدم الذي خلق الله الدنيا كلها من أجله . فإن قالوا أن قيمة الخير غير قابلة للتعريف ، نقول : إن الخير هو بشديد البساطة = الحرية .
و الدرس المستفاد هنا من ترتيب رب العزة للأحداث التي ما كانت تحدث إلا بإرداة منه و تصميم مسبق ، أن الأصل في الخلق هو الخير و الخير هو الحرية التامة ، و أن الأصل في الشر هو الانتقاص من هذه الحرية بأوامر ونواهى تحد أو تحظر أو تمنع ، الله يريد أن يبلغ أصحاب العقول منا أنه كلما زادت القيود و الفتاوي و الخطوط الحمراء ، كلما قلت الحرية ، كلما استفحل الشر . . . .
و لازال لنا مع ثقافة القيم قول قد يطول .

د. سيد القمني

2008 / 12 /12

#سيد_القمني (هاشتاغ)

Please follow and like us:

فكرتين عن“فلسفة القيم 4 – نحو تأسيس ثقافة للقيم التحريم بالأمر والنهى”

  1. In attaching this tag to the protein, LYTAC hijacks a pure
    cell shuttling mechanism designed to escort newly synthesized
    lysosomal proteins to their new dwelling.
    The traditional strategy to hinder these unhealthy proteins
    includes the use of medication tbat block the enjergetic sitee of the protein, which is normally achieved by moving the atom.
    The run of the mill four cylinder ford cast iron engine block offered the bottom
    on which the twin cam engine was constructed, the
    cylinder head was a Harry Mundy designed twin cam alloy head,
    which incorprated chain drive to the twin ovger heaad cams, which actuated the eight valves.
    I’m constantly hittihg the USB power cord to either mute or block
    the false alerts. Sciatica also applies to pinched or else compressed nerve pain.Chiropractic affords
    relief from the discomfort of sciatica due to the involvement of the spine as effectively
    aas thee nervous system. Whether your symptoms are stern, or whether or not your signs are gentle, annd
    also you wish to evade them changing into severe, Chiropractic Fiest
    can help. These escprts in Aerocity 5 star accommodations can transscend their limits to ensure shoppers are
    proud of their performance.

    Also visit my page: דירה דיסקרטית בהרצליה

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *