قمة ال (17) 2 من 4
كانت العدالة تفترض معاملة أهل البلاد المفتوحة معاملة مكة مع ما فرضه الله علي مسلميه من المودة والرحمة للقسيسين والرهبان, وكان للنبي فيهم يهودا ومسيحيين صهرا ونسبا ، بل ونالت مكة ميزات اضافية فبعد اطلاقهم سالمين بأوامر الاخ الكريم وابن الاخ الكريم (ص) , قام النبي يشتري ايمانهم بالمال تألفا لقلوبهم, فلماذا اختار الفاتحون لبلادنا القتل والذبح والاسر والسبي والمغانم والفىء بمادة خيبر، ولم يختاروا لنا مادة مكة ، ولماذا لم يتألفوا قلوبنا بالمال؟ لماذا لم يشترونا ؟؟؟؟ وهي بالاضافة لكونها سنة نبوية ونموذجا من نماذج الفتح المطروحة ، هي أيضا فرض علي المسلمين حسب نص الآيات؟
لقد عامل الفاتحون أهل الكتاب في البلاد المفتوحة معاملة أشد سوءا وبشاعة وقسوة, كان موقفهم بعيدا حتي عن قواعد العدل في الحرب حسب الشريعة الاسلامية نفسها، حتي ذلك الوقت كنا أولي بمادة مكة لا بمادة خيبر, حتي لا يحسب الناس الأشرار أن اطلاق الوثنيين المكيين وشراء إيمانهم ، كان لسبب عاطفى اوعنصري لقرابتهم من النبي. كان العدل هو معاملة البلاد المفتوحة بمادة مكة حتي لا تحسب عصيبة قبلية لا علاقة لها بالدين وكرامته….. لقد كانت حكاية إنقاذنا من الظلم علي يد العرب هي اكبر كذبة شريرة في التاريخ الأنسانى كلة .
كان هذا هو جدول أعمال قمة الـ (17) , ولم يسجل ان أحدا في هذا الاجتماع قد تقدم بطلب احاطة عن الفرد المسلم ، والمرأة المسلمة ، والمجتمع المسلم ، وأحوالهم في البلاد الموطؤة , وهو ما يطلبه كل المشتغلين علينا بالدين في أيامنا هذه. يريدون لنا : الفرد المسلم و المراة المسلمة ،والمجتمع المسلم ، ان الأخوان المسلمين يطلبون لنا ما لم يطلبه لنا الصحابة الأجلاء في زمن الاسلام الذهبي.
لقد كان الخليفة عمر بن الخطاب يعادل في زمنه الرئيس الامريكي جورج بوش اليوم, لكنه كان زمانا له قيمة المختلفة, التي حملها شعب لا علاقة له بالحضارة خرج من بيئة متبدية وثقافة بدائية، زمن لم تكن فيه امم متحدة لتراقب ، ولا مجلس أمن ليحاسب ، ولا ضمير عالمي قادر علي اعلان صرخته الاحتجاجية. كانت قمة الـ (17) اجتماعا يليق بزمانها وبأصحابها , اصحابها الذين نسوا تماما وبالمرة الهدف الذي كانوا يفتحون البلاد من أجله ، وجلسوا يتباحثون في توزيع الارضيين والبشر اطفالا ونساء والبهائم بينهم فيئا.
قد يذهب حسن الظن بالقارئ هنا الي أن الفاتحين قد فتحوا البلاد ثم جلسوا هناك ينتظرون موافقة قمة الـ (17) لينالوا فيئهم وغنائمهم, و هذاهو الخطأ نفسه ،لان الفاتحين قد نالوا غنائمهم علي أرض المعركة فورا مع كل موقعة ومع كل مدينة ومع كل قرية ومع كل رجل أو امرأة أو حتي طفلا. لقد كانت مطالبهم أبعد من ذلك, كانت مطالبهم بعد كل ما غنموه وسلبوه وسبوه هى : الارض بمن عليها, كانت مطالبهم قسمة الارضين عليهم بعد أن أفاءها الله عليهم بسيوفهم.
يحكي ( أبو هريرة الدوسي) ما أصاب الصحابة من الدهش والحيرة والفجأة لما أصبح بين أيديهم, فيقول:” قدمت من البحرين (ساحل الاحساء حاليا) بخمسمائة ألف درهم, فأتيت عمر بن الخطاب (رضي) ممسيا, فقلت: يا أمير المؤمنين اقبض هذا المال. قال: كم هو؟ قلت خمسمائة ألف درهم, قال: أو تدري كم هي الخمسمائة ألف؟ قلت : نعم, مائة ألف خمس مرات, قال: أنت ناعس , اذهب الليلة فبت حتي تصبح. فلما أصبحت أتيته فقلت: اقبض هذا المال, قال: وكم هو؟ قلت خمسمائة ألف درهم, قال: أمن طيب هو؟ قلت: لا علم لي بذلك، قال الخليفة: أيها الناس قد جاءنا مال كثير , فان شئتم أن نكيل لكم كيلنا , وان شئتم أن نعد لكم عددنا/ أبو يوسف, الخراج 49″ .
كان هذا المال قادما من منطقة هي الأشد فقرا في الجزيرة ، وليست بغني بلد كالعراق أو الشام ، فقد غنموا بعد ذلك ما كان يصيب بالبهتة, فجاءوا من خزائن كسري بثلاثة ألاف ألف ألف ألف دينار, ووجدوا بالقصر من التحف والأمتعة ما لا يقيم بمال ، من ثياب منظومة بالجواهر إلي حلل مكللة بالديباج منظوم فيها الؤلؤ.
هذا غير ما غنمه المحاربون الفاتحون مباشرة بالاستيلاء عليه ، فكان جيش سعد بن أبي وقاص من ستين ألف فارس أصاب كل فارس ثنتا عشر الفا, ثم أن سعدا بعدما أصاب أهالي البلاد المفتوحة الذعر !!!! ، قتفرقوا هاربين بجلودهم فزعا ، قام فقسم المنازل والدور بين رجاله وأنزل العيالات (القبائل الزاحفة من الجزيرة لخير الفرات) في الدور فأقاموا بها ، ، ، ،
وهو ما يذكرنا بحكاية دير ياسين وقيبة وكفر قاسم, نفس الممارسة ردا علي ذات الفعال. انها ثقافة البداوة المقدسة المعلومة عند كليهما ….. أليسا بنى عمومة ؟ وإن العرق دساس كما قال النبى محمد ( ص ) .
عن موسي بن يزيد قال: ” حمل أبو موسي الاشعري الي عمر بن الخطاب (رضي) ألف ألف , فقال عمر: بكم قدمت؟ قال بألف ألف , فأعظم عمر ذلك وقال: هل تدري ما تقول؟ قال: نعم , قدمت بمائة ألف عشر مرات, فقال عمر: لئن كنت صادقا ليأتين الراعي نصيبه وهو باليمن / أبو يوسف , 50″ .
ان هذا المال الذي كانت كثرته كفيلة بالإقناع انه ” من طيب هو!! قد جاء بلاد العرب حلالا زلالا وفق شريعة الجهاد الخيبرية, خالد بن الوليد مثلا فتح حصنا لمدينة صغيرة بالعراق تدعي بانقيا, فقتل كل من كان فيه من الرجال, وسبي كل من كان فيه من الاطفال والنساء ، ثم امر باحراق الحصن وهدمه لتذروه الرياح, ثم قرر علي أهل القرية جزية سنوية مقدارها ثمانين ألف درهم ( أبو يوسف 157) , فاذا كانت تلك القرية العراقية المنكوبة المنكورة قد تقرر أن تدفع هذا المبلغ بعدما سلبت ونهبت وخربت ، فكم بالحري كان يدفع العراق كله ، أو الشام كله ، أو مصر كلها؟
عاد العراق برزقه الذي “من طيب هو” لكل فارس محارب بأربعة عشر ألفا, ولكل محارب راجل سبعة الآف ومئة سهم، وأسهم لعيال الشهداء والنسوان من صلب هذه الفئ (اليعقوبي 2/145) . أي انه كان علي المفتوحين أن يدفعوا دية الميت الفاتح ، وأن يعولوا عياله ونسوانه ….., هل تذكرون صدام حسين عندما كان يأخذ ثمن الرصاصة من اهل المقتول بعد أن يقتل أمام عياله؟ يبدو أن صدام كان خليفة زماننا النموذجي !! هذا رغم أن توزيع مال الفئ علي العيال والنسوان مخالف لشريعة الجهاد ، لانهم لم يوجفوا مع المجاهدين لا بسيف ولا ركاب حسب الشرع القرآني ، أما مدينة المدائن الشهيرة فقد فاضت بـ ” طيبها الحلال” فأصاب الفارس في الموقعة ثنتا عشر ألف, وكانوا ستين ألف فارس (الكامل في التاريخ ج2 , ص 518).
أما النساء السبايا من المليحات من شوام وعراقيات وفلسطينيات ، فترصدهم لنا كتب التاريخ الاسلامي وكتب الخراج بأيما فخر وأيما اعتزاز, فسبي خالد في سيره من الحيرة بعد انهائها من الوجود الي دمشق, الف رأس منتقاه , وسبي من دمشق وحدها خمسة آلاف رأس من النوع الأبيض الأشقر الذي يعشقه العربي, أما بنات جلولاء الحرائر فقد فاضوا سبيا وخيرا عميما تم توزيعه علي الاعراب فى مضاربهم بالجزيرة ، وفاضت السبايا من جداتنا وامهاتنا البعيدات، حتي أتي الإعرابي لذته نصيبا وهو مسترخ على مؤخرة بعيره باليمن.
وبين أهازيج الفتوح ، ومفاخر الفاتحين ، تجد نوادر يتامي ممن ذهبوا للفتح فلم يروا في هذا الجهاد ما رآه السادة من الصحابة, مثل ذلك الذي اسمه ثعلبه ، الذي عاد ليخطب في مسجد بني حمان مقسما قائلا: ” لله علي ألا أرجع الي سواد العراق مما رأيت فيه من الشر/ القرشي /الخراج/45″ .
المشتغلون علينا بالدين يؤكدون أن أهم أهداف الفتوح الاسلامية هو تحقيق العدل ، واقامة المساواة ، ونشر الحريات ، وترسيخ الإخاء، وحقوق الانسان ، والقضاء علي العبودية. لكن يبدو ان تلك الاهداف لم تكن واضحة لصحابة رسول الله في زمنهم, فلم يخطر لأحد من هؤلاء الصحابة الكبار أن يطرح أيا من تلك الاهداف ولو في مداخلة استفسارية فى قمة ال(17) التى عقدها الخليفة عمر بحضور سبعة عشر من كبار الصحابة. لم يطلب الصحابة المساواة والاخاء والعدل والقضاء علي العبودية في بلادنا الموطوءة, بل طلبوا بوضوح ودون أي تزويق،ودون أى تحرج انعدام المساواة وانعدام الاخاء وانعدام العدالة بالكلية مع مزيد من العبودية, طالبوا بامتلاك الارضيين بمن عليها سادة كانوا أو عبيدا ، ملكا خالصا لهم يورثونه أولادهم وأحفادهم كريم لكريم وشريف لشريف وكابر لكابر. الفرق بين هذة القمة وقمم الدنيا كلها أن قرارات الـ (17) كانت قرارات مقدسة, تحولت الي قوانين شرعية استفاضت في تشريعها وتسنيدها كتب الفقه علي مختلف مذاهبها, وما ترتب علي ذلك بالضرورة أن أصبحت قرارتها أبدية.
يحكي أبو يوسف في الخراج (ص 24) وأبو عبيده في كتاب الاموال (ص 59) ما توصل اليه المجتمعون في قمة الـ (17) بقولهما:” والذي رأي عمر الامتناع عن قسمة الارضيين بين من افتتحها “.
أما كيف انتهي عمر الي هذا القرار , فقد حدث : ” عندما عرفه الله ما كان في كتابه من بيان ذلك, توفيقا من الله كان له فيما صنع, وفيه كانت الخيرة لجميع المسلمين (يقصد العرب). وفيما رآه من جمع خراج ذلك وقسمته بين المسلمين لعموم النفع لجماعتهم, لان هذا لو لم يكن موقوفا علي الناس (العرب) من الأعطيات والأرزاق لم تشحن الثغور, ولم تقو الجيوش علي السير في الجهاد “.
واضح ان الاهتمام تركز في نهاية اجتماع هذه القمة كما كان في بدايتها, علي الاعطيات والارزاق للعرب, وتقوية جيوشهم في الثغور حتي لا يعود الروم أو الفرس لاختطاف الفريسة مرة اخري. الاهتمام بالمنافع المادية والاعطيات والارزاق دون اي اشارة توضح أى اهتمامهم من جانب أى واحد فيهم بالدين ذاته وحقوقه والعبادات واصولها وحقوقها. وقد تأكد لأبي يوسف وابي عبيده ان الله قد أظل قمة ال(17) بظله. بل وشارك فيها بفعالية, فقام بتعريف عمر بن الخطاب بالصواب توفيقا منه, وهو أن تتحول الارضيين من فيئ يوزع علي المحاربيين حسب شريعة الجهاد, الي فيئ موقوف علي العرب كملكية عامة علي المشاع بجميع أجيالهم ، الي أن يرث الله الارض ومن عليها. وكانت هذه المشاركة السماوية فى قمة ال(17 ) بغرض تسديد عمر وإلباس قرارة رداء قدسيا بهذه القمة المباركة. وهو ما سيطبق بعد ذلك علي مصر بعد فتحها. حين رفض عمرو بن العاص مطلب الزبير بن العوام بتقسيم مصر علي الفاتحين. وإعماله التوصيات التي انتهت اليها القمة بشأن بلاد الشام والعراق. ولم يقم بعد هذه القمة أي خليفة بمحاولة تغيير في هذه التوصيات, فلم يغير من بعد عمر لا عثمان ولا علي ، لانهما كانا من أعضاء القمة ووافقوا علي ما انتهت اليه من توصيات. وكان (علي) يقول في خلافته بهذا الخصوص : ” ان عمرا كان رشيد الامر, ولن أغير شيئا وضعه عمر”. وهو ما استمر قائما في الزمن الأموي والعباسي والعثماني , ولم تسترد هذه الشعوب مقدراتها وارضها وحدودها الا بعد سقوط الإمبراطورية العثمانية, وبسبب الاتفاقية المعروفة باسم سايكس بيكون ، التى يصفها القوميون والإسلامبون ب (المشؤمة) !!
د. سيد القمني
2007 / 2 / 1