خطوطنا الحمراء
سبق لي في أعداد سابقة أن ناقشت هنا قاعدة «المعلوم من الدين بالضرورة» وما تستتبعه من أوامر ونواه تؤدي مخالفتها حسب الشروط الفقهية إلى شيء يسمى «الارتداد». وأن هذا الشيء له حد واحد هو القتل بعد محاولة الاستتابة غسلا لليد من الدم مقدما. كما علمنا أن هذه القاعدة قاعدة مطاطية لأنها من صنع فقهاء من بني البشر، ولأنها كذلك فإنها تقبل الإضافة والحذف حسب الهوى والمصالح والنزوات الإنسانية وهو كله ما لا علاقة له بالشأن الإلهي. ولإيضاح المسألة ضربنا أمثلة لتلك القاعدة من معلومات من الدين بالضرورة تؤكد هذه المطاطية إلى حد المصادمة مع قوانين الدولة الشرعية التي ارتضيناها نظاما عاما لأمتنا المصرية الحديثة.
نكرر مرة أخرى وأخرى أن السماح لفرد مهما علت مكانته أو لجماعة أو لمؤسسة ثقافية أو دينية أن يقوم بالتشريع للوطن مع وجود تشريعات قانونية ودستورية، فإنه يستحق العقوبة الفورية لأنه بذلك يقيم دولة موازية لدولتنا الشرعية ويعتدي عليها وينتقص منها ويسلبها هيبتها. ويصبح هذا المطلب المتكرر مفهوما وواضحا عندما نجد في هذه القاعدة التكفيرية من يجعل المعترف بقوانين الدولة مارقا فاجرا مرتدا لأنه يحترم دستور وطنه وقوانينه، لأن هذه القوانين قوانين وضعية من وضع الإنسان، ومعنى احترامه لها والقسم على طاعتها والعمل بها أنه قد رضي بها بديلا لقوانين الشريعة الإسلامية وهو الكفر بالدين والخروج على الملة. وقد رأينا صحفا قومية وكتبا تعليمية تردد هذا القول وتصر عليه مما يخلق لدى المواطن ولاء لدولة الخلافة الخفية، وينزع منه الولاء لوطنه الأرض والتاريخ والشعب والدولة. ويجعل من تشريعات الوطن عبثا ومن قسم القضاة على احترام قوانين الوطن كفرا، مما يجعل القاضي أحيانا ينحرف عن قسمه إخلاصا للخلافة الخفية ليحكم بما تأمر، فتنحرف الأحكام عن القانون إلى النقمة والنكاية ممثلا في كثير من الأحكام الظالمة التي تعارض القانون علنا، وهو الأمر الذي يجب أن يتوقف الآن وفورا بتطبيق العقوبات الرادعة على كل من يرى نفسه بديلا للوطن كله يشرع ويضع الحدود ويأمر بالتنفيذ، وهو ما سمح من قبل بظهور الإرهاب في بلادنا وولاء الشباب لأحكام أمراء الجماعات من جهال الدين والدنيا، وهو ما لا يجب أن نسمح بعودته على أية صورة أو خلف أي قناع مرة أخرى، خاصة في هؤلاء الذين يتجشأون علينا طعامهم السمين في شاشات التلفاز بكل ما هو ضد القوانين المعمول بها، ناهيك عن كونه ضد كل ما هو عقل ومنطق وعلم، مما ينتهي بالعقلية الأسطورية إلى سيادة الموقف.
وإنني هنا أدعو كل من يهمه الأمر إلى الضرب بيد من حديد على يد كل من يستهين بالدولة وتشريعها لصالح شئون لا علاقة لها لا بالواقع ولا بالوطن، أولئك الذين يدينون القوانين الوضعية التي هي تشريعنا لأنفسنا حسب ظروف زماننا ومصالحنا، بحجة أن الله هو الأعلم بظروفنا وأنه قد شرع لنا وانتهى أمر التشريع بعد ذلك إلى الأبد!. ومعلوم أن هذه الحجة كانت هي سند الفتوى التي أفتت بها جبهة علماء الأزهر فأهدرت دم طيب الذكر دوما الراحل «فرج فودة». والمأساة الحقيقية أن هذا التكفير يطال شعبنا كله ودولتنا بكل مؤسساتها، ويخلق بين المواطنين ولاءات هي خيانة عظمى للوطن، تدفع بعض شبابنا المغرر بهم إلى رفع السلاح في وجه وطنهم وبنى وطنهم. أما المحزن المخزي فهو أن تتم محاكمة بعض مفكري الوطن لأنهم أخلصوا للدستور والقانون فتحدثوا عن المساواة في الحقوق والواجبات بين المواطنين بغض النظر عن العنصر أو اللون أو الجنس أو الدين، وهو ما حدث مع كاتب هذه السطور، ولولا قاض يحترم نفسه ويحترم القسم الذي أقسمه ويخلص لوطنه «الأستاذ سلامة سليم» لكان العبد الفقير لم يخرج من حبسه بعد، كما حدث لبعض زملاء الهم والغم وطبقت عليهم أحكام دولة الخلافة الخفية لا أحكام دولتنا الشرعية. والعجيب أنه تم تنفيذها، وقامت بتنفيذها دولتنا الشرعية! ومن جانبهم يصر مشايخنا على قاعدتهم لضمان قعودهم على صدورنا أطول فترة ممكنة، ويدرجون تحتها مجموعة من المحاذير والموانع القامعة التي لا تكاد تترك للمسلم فرصة للتفكير في أي شأن لأنها إنما تعمل على تسليم عقله لهم تماما وبدون وصل استلام، لتتم إذابته في العقل الجمعي الذي تم تنميطه وتجهيزه وفق أطر كهانية ما أنزل الله بها من سلطان. فكان ما كان ما نرى في شارعنا وفي سلوكيات ناسنا.
وكان ما كان من هزائم وتخلف وانحطاط حضاري لا شبيه له في عالم اليوم بتشابه النسخ العقلية في طبعة واحدة لطائفة واحدة يسهل إمساكها وتحريكها، وهو الأمر الذي يشكل خطورة هائلة على الوطن وأمنه، لأنه يكفي لأي مأفون أن يستثير هذا العقل الواحد الذي تم سلبه الوعي ليتحرك الجميع كما سبق وحدث في أزمة رواية «وليمة لأعشاب البحر» التي ذهب ضحيتها شباب تم نزع عقولهم، في تحرك عشوائي لولا أخذ وزارة الداخلية بالمبادرة السريعة لكان ما حدث هو الأسوأ، لكنا حتى الآن لم نسمع أنه قد تمت محاكمة الطبيب محمد عباس الذي كان وراء هذه الملحمة السوداء!.
وهنا عثرات الدولة الشرعية التي يجب أن تتلافاها، وهذا ما ننبه عليه حتى لا يفكر مأفون آخر في مناخنا الجاهز لأي خراب ممكن بانتهاز فرصة أخرى. ومن هنا يمكننا أن نفهم هذا الشأن الأعجوبة، عندما تسري في كل العقول فجأة نفس الاستنتاجات لنفس المقدمات بنفس المفاهيم، وتتوحد المواقف إزاء كل شأن في تراص مصفوف، لأنه عندما تتحول عقول المواطنين إلى طبعة واحدة ونسخة واحدة، فإنه يمكن لأي فيروس أن يخترقها جميعا. وأن يدمرها جميعا، أو يعيد تشكيلها حسب إفرازا ته تشكيلا متطابقا تحمل في داخلها أمراضها التي تسمح للفيروس بتوجيهها وزرع بذرة الفناء فيها. وهكذا تضع لنا القاعدة ما يسمونه «الخطوط الحمراء» التي لا يصح الاقتراب منها، وهي الخطوط التي تمنع المسلم من التعاطي مع دنيا اليوم لأنها بكليتها تخالف هذه الخطوط لأن تلك الخطوط وضعت لدنيا غير دنيانا، وهو ما يعني عدم التعلم من المتقدمين والاستفادة من علومهم لتطوير أنفسنا وبلادنا، لأن بيننا وبين هذه العلوم كثيرا من الخطوط المتوهجة احمرارا، وهي الخطوط المزعوم نسبتها للدين، فتمنع أي حراك لواقعنا المسترخي الآسن، وتستخدم الدين كابحا لأي تفكير ومن ثم لأي تقدم نرجوه لأنفسنا ولبلادنا.
المشكلة الحقوقية هنا هي الأعقد لأن في الوطن مواطنين لا يدينون بالإسلام، إضافة إلى مسلمين لا يعترفون بخطوط هؤلاء لا الحمراء ولا السوداء وهم كثير، وأن هؤلاء وأولئك مواطنون على ذات الدرجة من الأهلية ومن المواطنة. وأن الوطن وطنهم وأنهم يملكون من حبات ترابه نصيبا ربما كان هو الأكبر، وأن لهم من الحقوق ما يجعلهم في حال انتهاك دائم لحقوقهم بما يفرضه فريق الخطوط الحمراء على الجميع بكل أطيافهم السياسية والدينية المختلفة من محاذير أغلبها إن لم يكن كلها يقف في نهاية دربها «مسرور» يحمل سيفه مسرورا، لأن حوله قد توالد أكثر من مسرور من بني الوطن يحملون ولاءهم لمسرور وليس للوطن!. رغم أن هذا الوطن ليس حكرا على طائفة دينية بعينها أو مذهبا بذاته أو جماعة أو فريق أو فصيل سياسي أو من أي لون كان، لأن مصر ملك لنا جميعا، ولنا فيها من الحقوق نصيب كامل غير منقوص كأي مصري آخر، وهو الأمر الذي يفرضه القانون، ويفرض معه على كل الفرقاء قواعده، لكن عندما يتوارى القانون أمام اللحى والجلابيب والمسابح، فإنه يكون قد أهان نفسه وسمح لأي فريق أن يتطاول عليه، وهو ما يمكن أن يصيب الوطن بمزيد عما نرى أمام أعيننا من تحد لهيبة الدولة وكسر قوانينها. وكل واحد وكيفه ومزاجه ومكاسبه من هذا الكسر المباح الذي أباحه وجود طائفة تتحدى هيبة الدولة وتكسر قوانينها علنا في الإعلام والتعليم، فتصيب قيمة المواطنة الأساس لأي تماسك اجتماعي بالخلل والضياع، كما تشكل في نفوس المواطنين هيبة لذوي اللحى، وطاعة لذوي الجلابيب الباكستانية، هيبة أبدا لا يستحقونها، خاصة إذا ما قورنت بهيبة الدولة المستباحة لكل أفاق أمسك بمسبحة وادعى الحديث باسم الله.
والآن لنبتهل الفرص كما يبتهلون وننتهز النهز كما يفعلون في زمن بدأت فيه مقاعدهم في الاهتزاز من تحتهم، وبدأوا يسجلون تراجعات يعلنون فيها ولو من طرف اللسان، أو من باب التقية حتى الوصول إلى صندوق الاقتراع، اعترافهم بأن مصر وطن لكل المصريين حقا وواجبا. فإذا كانت مصر وطن الجميع على التساوي حسب اعترافهم بعد حلول المارينز قربنا، فإن أي طرف من الأطراف إذا أراد أن يضع لنا خطوطا حمراء لا نتعداها حتى في التفكير والبحث، فإن هذا الحق يصبح مباحا لكافة الفرقاء ليضع كل منهم خطوطه الحمراء وفق مبادئه وما يؤمن به، وأن أول من يجب عليه الاعتراف بهذا الحق، هم المبتدعون الأصلاء لحكاية الخطوط الحمراء، لأنهم المشرعون لهذا الحق لأنفسهم، فإذا كنا جميعا مواطنين على ذات الدرجة، فإن للمسيحيين خطوطا حمراء لا يجب التعدي عليها في كتبنا الإسلامية التي تملأ أرصفة الشوارع تكفيرا وتنفيرا، كذلك هو ذات الحق الذي لابد أن يعلن بموجبه الشيعة عن خطوطهم الحمراء، وكذلك البهائيون، وكذلك الملحدون، لأنه إن سمحنا لفريق واحد أن يضع لنا جميعا خطوطا حمراء، فهو ما سيعني فورا أننا نسمح بتسييد ثقافة واحدة على باقي ثقافات المجتمع تضع له قوانينه وتسن له شرائعه وتحيطه بالخطوط الحمراء أينما اتجه، وهي قوانين وقواعد خلافة قررت حل نفسها بنفسها عندما اكتشفت ما آلت إليه من تخلف، وتخلت عن كل الخطوط الحمراء، بينما نحن نرفض إعلان الاستقلال عنها حتى اليوم.
وبما أن المجتمع هو مفردات تشكل نسيجا متماسكا، وبما أن لكل مفردة خصوصيتها التي لابد أن يعترف بها المجتمع، ثم عليه أن يعترف بخطوطها الحمراء، فإن صدام هذه الخطوط معا سيكون حتميا، نعم قد يقول قائل هنا: إذن مرحبا بالخطوط الحمراء، كي يكون كل فريق رقيبا على الفريق الآخر، لكنه سيكون منطق الصراع لا منطق التكافل والتآزر الذي لا يمكن إقامته إلا بإلغاء كل الخطوط والموانع والسدود، ولا يبقى منها إلا خطوط قانون تم تشريعه برلمانياً، شرعناه بأيدينا ليرضينا جميعا ويفي بحاجات المجتمع المدني المتماسك قانونيا ودستوريا، قانون الدولة المعاصرة متعددة الألوان والأشكال يجمع أطيافها اتفاقها الاجتماعي.
إن صراع القيم والمفاهيم الدينية والأيديولوجية والحقائق المطلقة لن يتمكن من الوصول إلى تفاهم لأن كل فريق لديه يقينيات إيمانية تصادر على الآخر، لأن كل فريق يتخذ من موانعه وسدوده متاريس يتمترس خلفها بحسبانها مقدسات تعطيه الحصانة لينال من عقائد الآخرين وقيمهم، وفي حال كحالنا لا يتمكن أي فريق غير الفريق السيد من الرد ولا يملك حق المناقشة في ظل إحكام سادتنا المشايخ قبضتهم على المساحات المتاحة للرأي والقول، بل وعلى دماغ الناس، لأنه غير مسموح بوصول أي آخر لهذا الدماغ، وتمسى محرماته وخطوطه هي الوحيدة القادرة على الوجود وعلى الفعل حتى أصبحت هي المعتاد الوحيد، لتضحي في نظر الناس مسلمات لا تقبل النقاش. وهو الدكتاتورية عينها والاستبداد ذاته لفريق حصين يفرض سلطته وسلطانه على باقي المجتمع المجرد من أية سلطة، هو فريق واحد يتبارى مع فرقاء مقيدين لا تصل أصواتهم لبني وطنهم.
كفاكم حديثا عن خطوطكم الحمراء لأنها أصبحت خارج التاريخ، خطوطكم عبودية تشرع العبودية والسبايا ووطء ملك اليمين، عبودية تشرع العقوبات البدنية كالقطع والجلد والرجم، خطوطكم تدفع شبابنا إلى الإرهاب بدلا من البناء والموت بدلا من الحياة وإلى الخراب بدلا من العمار، خطوطكم أهلت مجتمعاتنا للعيش في القرن السابع الميلادي بدون أي محاولة تكيف مع زماننا، لذلك ذهب العالم في فضائه الحر إلى حيث هو الآن، ولذلك نقبع نحن هنا الآن، خطوطكم لم تعد تصلح لا للوطن ولا للعالم ولا لقوانين واتفاقات ومعاهدات دولية مبرمة بيننا وبين الدنيا وأممها المتحدة، أو ليتحدث كل فريق عن خطوطه الحمراء، أو كل فرد، لأن لي شخصيا الكثير من الخطوط الحمراء، أريد طرحها في زفة الخطوط الحمراء، باعتباري مواطنا صالحا ونظيفا.
د. سيد القمني
2007 / 2 /16