خريطة الطريق نحو الإصلاح : ( 8 )
فلسفة القيم : قيمة ( الكذب في سبيل الله )
قبل أن تقرأ الموضوع :
تكاثر عليّ السؤال : لماذا ترك سيد القمني اهتمامه بالقراءة الاجتماعية للتاريخ الديني في ثقافة الشرق الأوسط القديم ، و عمد إلى تكريس عمله في مواجهة التيار السلفي و الإسلام السياسي ؟!
احتراماً للسؤال و السائلين أجيب :
أنه منذ عقد من الزمان ، طويت أوراق التاريخ القديم حيث مساحتى الرحبة في البحث العلمي ، و أغلقت باب التاريخ القديم و معه قسم الأساطير بمكتبتي ، بينما كان عالم الأساطير ( الميثولوجي ) و الانثروبولوجي و التاريخ القديم هو كل عشقي و متعتي ، و بعد العيش بحثاً راء الكشف التاريخي بمنهج بهيج يملؤك شغفاً كلما نظرت من خلاله إلى المجهول التاريخي ، منهج أو مناهج علوم تاريخ الاجتماع الديني ، ناهيك عن فلسفة الأديان و ما أدراك ما فلسفة الأديان ، هناك كانت متعتي سعادتي ، و من هناك عدت لقرائي بثمار الرحلة ( رب الثورة ، قصة الخلق ، الأسطورة و التراث ، النبي موسى ، النبي إبراهيم … إلخ ) ، قبل أن يفرض الواقع شروطه على دماغي و روحي كما فرضها على غيري ، و حتى لا أكون مثقفاً خائناً لقضية وطنه مشغولاً بلذائذه البحثية الخاصة و نجاحاته الكشفية بين أقرانه ، كان لابد أن آخذ دوري في مواجهة المد السلفي الذي فرض نفسه على واقع بلادنا بكلة و كليلة و قديمه القاسي الجافي ، لأن المشاركة في صد هذه الهجمة كانت عندي لوناً من الجهاد الذي يتم تعريفه بأنه ( فرض عين ) ، بعد أن أصبح الوطن بتاريخه بناسه مخطوفاً لصالح طائفة متشددة صحراوية جافية ، لكن الجهاد الذي أعنيه ليس جهاداً في سبيل الآخرة ، فهذا شأن لا علم لي به فهو غيب مجهول لا يصح فيه أى قول إنساني ، لذلك أخترت الجهاد المفهوم بالنسبة لي ، و هو الجهاد في سبيل الدنيا مقابل جهادهم في سبيل الآخرة و نعيمها خمرها و حور عينها ( يعني مرعة و قلة صنعة ) ، هذا لون من الحياة لا يرغب فيه مثلي ، جهاد الانتحاري بموته ، أو الفقيه بفكره التحريضي ، يريد الثواب الشخصي على انجازه ، و قد تشتد أنانيته عن ذلك فيذهب شاباً في بداية الربيع لينتحر عن باب حسينية في العراق ، تاركاً طفلا أوطفلين و أرملة شابة و ربما أب أو أم عجوز ، طمعاً في مكان أرقي وأجزل فى النعم لنفسه ، غير عابئ بما سيحدث لأسرته و عائلته من بعده.
و ان تلك الرغائب الغرائزية المحققة للشهيد في الفراديس ، ليست عيباً إن طلبناها و سعينا إليها ، لذلك أباحها الدين للمجاهد في سبيل الدين مانحاً روحه الخلود و جسده المتع و اللذائذ كلها ، فمصعب بن عمير عندما قتل أبيه الكافر ، فاز بعدة مراتب ، مرتبة الشهيد في نعيم الفردوس ، و مرتبة من نصر دينه و فضله على أهله و أبيه و صاحبته و بنيه ، و ذبح هذا الرحم في سبيل الله ( قال له : خذها في سبيل الله ) ، هو قاطع رحم و واصل دين ، و هنا رتبته العظمى فى الطاعات ، لأنه كان نموذج الطاعة للآيات المحرضة ضد كل مناهض للإسلام ، حتى لو كان من ذوى القربي ، حتى لو كان …. أبية !!! .
هذا جهاد يحض عليه قرضاوي و يقرظه منتصر الزيات و يمتدحه ، و هو يعلق على مشهد مجزرة زرقاوية بالعراق ، بإحدي الفضائيات ، بقوله : أن الذين ذبحوا الأطفال و النساء و الشيوخ في هذا الفيلم التسجيلي هم أسود الإسلام الذين يسمعون زئيرنا للعالم .
و كثيراً ما عجبت مع السؤال : إذا كان القرضاوي أو الزيات على يقين قاطع بمصير الشهيد المسلم كما هو يقيننا ، فلماذا يحرضون الشباب الذي لم يبدأ بعد ربيعه في الدنيا للاستشهاد ، و مازالت أمامه سنين ينفع فيها دينه و نفسه و وطنه ، لماذا لا يذهب الزيات بحزام ناسف إلى أينما شاء ، إلي دارفور ، أو الشيشان ، أو حتى إلي أمريكا ، أو إلى حيث ألقت ، لماذا لا يفعلها قرضاوي و هو رجل قد عب من نعيم الدنيا عباً ، و حاز مكانة اجتماعية رفيعة ، وأصبح عجوزاً شبعاناً ، رجله و القبر ، لماذا لا يختمها بالانتحار أو بالشهادة ضارباً للشباب المثال و القدوة ، و يضمن أن يتجاوزالله عن سيئاته في حق المسلمين ، و يسكنه الفراديس ، و يعطيه عوضاً عن حريمه في الدنيا ، ما يشاء و يشتهي من حور عين ، ويعيدة شابا منكاحا فحلا . لماذا لم يطلب من ولده الذي يعيش في أوروبا الطاغوتية أن يذهب لينتحر في ساحة الهايدبارك حيث خطاب الحريات الكفري .
هناك جهاد أخر ، هو جهاد في سبيل الدنيا و هو أيضاً في سبيل الدين من أجل اتباع الدين ، لكن مع اعتقاد راسخ أن الدين إنما جاء من أجل تيسير معاشنا لا لتعقيده ، و أنه راحة للنفس لا مصدراً للكراهية و رغبات التشفي الغرائزية ، و أنه جاء من أجلنا ، و ليس من أجل السماء فهي في غنى عن ذلك ، و أنه سبب للسعادة و ليس سبباً للكآبة ، و لا هو امتحان قاسي عسير تضيق بة الصدور، نحبه ونحترمة ،و لا نرهبه و لا نخافه ، نأخذ منه ما يصلح لدنيانا ولزماننا ، و نترك منه ما يعطلها لزمان دنياه و مكانه التاريخي .
و إذا كان الفقهاء قد اتفقوا على أن المقاصد الكلية للشريعة يقف على رأسها مصلحة الناس ، فإن الجهاد من أجل مصلحة الناس سيكون تحقيقاً للمقاصد الكلية للشريعة .
و مصلحة الناس المقصودة هي مصالحهم على هذه الأرض و في هذه الدنيا ، لذلك تركت دفاتري القديمة ، و قررت أن أجاهد و لكن من أجل مصالح أهلي و أولادي و شعبي و وطني ، من أجل الدنيا و بهجتها ، و من أجل الحياة لا من أجل الموت ، من أجل الوطن أولاً و بعد ذلك تأتي أى تراتبيات عربية أو إسلامية أو دولية . من أجل إنسان كريم يعيش في وطن عزيز . و الجهاد هنا هو جهاد سلمي يقوم على الحجة و البرهان ، و الانكشاف الشفاف الكامل على القارئ بحيث يستطيع أن يرى من كلماتك ما يجول بخاطرك و ضميرك ، و الصدق مع الذات و مع الناس و مع الموضوعات البحثية ، و التواضع أمام المعرفة ، فتكسب من القراء من يشكلون رصيداً لوطن يجمعنا على الحب ،و ليس من أجل دين أو طائفة أو عنصر أو مذهب يفرقنا طوائف و عناصر ، من أجل إعادة لم شمل مصر ، و هو غرض عظيم ، رأيت أن أشرف نفسي بالعمل من أجله مع العاملين فيه قبلي و معي و بعدي ، معتمداً على معرفتي بدروب و خفايا و مخابئ فقههم و طرائقهم و تاريخهم من فجره ، بحكم نشأتي في بيت لأب أزهري التعليم ، محافظ في تدينه ، حافظ لمحارم الدين ، و بحكم تخصصي الأكاديمي .
رأيت أني أستطيع بما لدي من معارف بالدين وبالعلم وعلومة ومناهجة ، أن أخوض هذا الجهاد ، رغم ما يسببة هذا اللون من البحث للنفس من كآبة و ألم و وجع و هلع ، فمنذ بدأت العمل في الشأن الإسلامي ، ما عاد البحث يسبب السعادة بقدر ما يثير مخاوف رهيبة لسيناريوهات محتملة ، انفتح القلم على الواقع فإذا بالبحث في التاريخ القديم و الأساطير ، هو لون من الترف العلمي الذي لا يحتمله هذا الواقع ، و من هنا بدأت رحلتي مع الكتابة الجدلية والبحثية مع ما يطرحه علينا السلفيون ، الذين أصبحوا الصوت الوحيد ، و مصدر المعرفة الوحيد ، و الرؤية التفسيرية الوحيدة الصواب للإسلام و عداها كافر ، حتى أمسى غير مطروح أمام المواطن في سوق الفكرة غير تلك الحقيقة الكاملة المطلقة ، يروجها إعلام الدولة نيابة عن الإخوان المسلمين ، و يشرع لها الأزهر فيمنع و يمنح حسب قدر فهم زبانيته القادمين من أكفان الماضي .
إنهم يغشون القيم :
إذا كان ممكناً كسر قيمة ( الوفاء بالعهد ) لأهداف سياسية و دنيوية ، فهو أمر معتاد في الشأن السياسي و العسكري ، تفعله الدنيا كلها كلما تعارضت المصالح مع العهود بتطور الأحداث بعد العهد . لكن أن يكون هذا الكسر من الدين ، و يتم في سبيل الله ، فإنه يصبح بالإمكان كسر كل القيم في سبيل الله ، و مع تعدد الفرق الإسلامية و المذاهب ، تتعدد الطرق لهذا السبيل ، حتى يكاد تفسير شخص واحد تفسيراً للدين كله ، و يمكنه تفعيل هذا التكسير للقيم من أجل مصالحه الذاتية الشخصية ، بحسبانه مسلماًُ الحق كله في جانبه ؛ و بتفعيل ذلك و توزيعه على مساحة الكاسرين لقيمة الوفاء بالعهد في سبيل الله ، لن تجد على أرض الواقع شيئاً بالمرة اسمه الوفاء بالعهد . و عليك دوماً أن تتربص الجميع حولك مهما كتبت من عهود ، فالكل جاهز لنقض عهده في سبيل الله . لهذا أصبح حال الأخلاق في بلادنا ما نراه من انهيار قيمي حاد و مخيف ، رغم انتشار الحجاب و النقاب و اللحية و الزبيبة في كل شارع و حارة ، و القرآن يغمرنا و الحديث يسمرنا ، و الشريعة بالمادة الدستورية الثانية تظللنا ، و البسملة قبل كل كسر لقيمة باب مشروع في سبيل الله تتبعها الحوقلة. وإعمالا لذلك وضع فقهنا الأصول لعدم احترام العهود فى بنود هى كالآتى
• لا تزيد مدة المصالحة عن أربعة أشهر ، و إذا زادت لضرورات فلا تجوز الزيادة عن عشر سنوات ، فلابد أن تكون المصالحة معلومة محددة لأن تركها من غير تقدير يفضي إلى ترك فريضة الجهاد .
• تكون المهادنة و المصالحة لضعف طرأ بالمسلمين ، لذلك تحدد مدتها إلى أن يزول سبب الضعف .
• إذا كان المسلمون في حال ضعف رخص لهم في الموالاة إذا خافوهم ، و المراد بتلك المولاة المعاشرة الظاهرة ، و القلب مطمئن بالعداوة و البغضاء و انتظار زوال المانع .
• الدعوة إلى السلم بمعنى ترك الحرب نهائياً كفر بالله مخرج عن الملة لأن الأصل في العلاقة بين المسلمين و الكافرين هو القتال و ان الاستثناء فيه هو السلم في هدنة أو صلحاً مؤقتاً و لا يتم اللجوء لهذا الاستثناء إلا لضرورة عجز أو ضعف أو نحوه .
مالك 1 / 289 ، الطبري و ابن كثير و القرطبي في تفسير آية 35 من سورة محمد ، و آية 5 من سورة التوبة ، و آية 28 من سورة آل عمران .
تعالوا نترك الفقة القديم إلى الفقة المعاصر ، نستمع إلى الرجال الهامات و العلامات ذوي القامات الأبرز في الهيئات الإسلامية المعاصرة ، الذين لاشك يمثلون القيم كافضل ماتكون النماذج . منهم مثلاً الدكتور أحمد الريسوني ، الخبير بمجمع الفقه الإسلامي الدولي ، الذي يري أننا لسنا بحاجة إلى الديموقراطية كما تعرفها الدنيا ، لأن لدينا الشورى التي هي عنده أهم و أعم من الديموقراطية ، و ” أن معظم الدول الإسلامية قد أصبحت لها مؤسسات شورية ، إضافة للمجامع الفقهية الدولية ” ، هذا بينما يرى ” الديموقراطية نظام أو تنظيم إداري لا يمكن أن نحل به مشاكلنا .. الديموقراطية فيها عيوب معروفة .. لقد جردت من الأخلاق .. و نحن إذا مارسنا الديموقراطية فيجب أن نصحح الديموقراطية ، فتكون ديموقراطية الأخلاق ، ديموقراطية الصدق لا ديموقراطية الكذب ، ديموقراطية الإخلاص لا ديمقراطية الغش ، ديمقراطية الوضوح و الصراحة ، لا ديموقراطية التلاعب و التناور / برنامج الشريعة الحياة / الجزيرة / حلقة رأي الأكثرية في الشريعة الإسلامية ” . و هو الكلام المؤدي في النهاية إلى تحريض المسلمين ضد الديموقراطية لأنها تتنافي و قيمنا و أخلاقنا !!
و قيمنا ( قيمنا وحدنا فيما يبدو ) هي مثل الصدق و الإخلاص الوضوح و الصراحة … إلخ من جماليات أخلاقية راقية ، نتحدث عنها لكنها غير موجودة بالفعل في أرضنا ، حتى أن ناصحنا الأمين الدكتور الريسوني قد مارس في عبارته القصيرة تلك ، كل ما هو كذب و عدم وفاء مع انعدام تام للصراحة و الوضوح ، فما بالك برجل الشارع المسلم الاعتيادي إذا كان هذا شيخه الفقيه الخبير ؟!
نعم لقيم المصارحة و المكاشفة و المصالحة ، لكن مشايخنا لا يعنون ما يقولون . نعم لإعادة قراءة تاريخنا قراءة علمية منصفة لا تغالي و لا تفرط و لا تبالغ و لا تبخس ، تقرأه كما كان ، على أن نقرأه بعقلين . عقل زمانه لنحترم توافقه مع زمانه ، و عقل زماننا الذي لا يصلح معه ظروف مكان و زمان سحيقين في القدم و البدائية. نعم لدرس تاريخ الإسلام ، ليس بقصد اجترار و إعادة مضغ أو فخر برجال ليسوا منا بل كانوا لبلادنا فاتحين و لعرضنا منتهكين ولأموالنا ناهبين ولأوطاننا محتلين، بل لنحدد موقفنا من أنفسنا ، و من الدنيا عبر هذا التاريخ ، لنعيد تأسيس حاضرنا على أعمدة راسخة تحددت فيها المفاهيم و وضحت المصطلحات من أجل فلسفة قيم تليق بزماننا الذي يحتاج لفعلنا و وجودنا فيه ، بأدواته و أساليبه المحدثة ، ليكون لنا مكان في الزمن الآتي ، بعد أن أصبحنا- شئنا أم أبينا – في معظمنا شعباً مسلماً يتحدث العربية .
إن الوهابية السعودية عندما أعادت فتح البلدان من حولها و بخاصة مصر ، جاءتنا بدين جديد لا يعرف المذاهب المتعددة و الآراء المختلفة رحمة بالمسلمين ، دين هو وحده المؤمن بالله دون بقية المسلمين ، هو وحده الخلف الصالح للسلف الصالح ، هو إنسان وديع مسالم ، هو خلف السلف الذي فتح بلادنا ليخرجنا من الظلمات إلى النور ، و لا تعلم هنا هل كان من ضرورات هذا الانتقال نحو النور ، و من لوازمه ، هتك أعراضنا ونكاح نسائنا و ذل رجالنا و استرقاق أطفالنا و نهب أموالنا ؟ ، مع القتل في شكله المفرط ، ثم الاستيطان في البلاد الموطوءة بالفتح ؟
المسألة هنا تتعلق بالقيم ، والقيم تتفاوت بتفاوت الجتمعات على سلم القيم ،لأن هتك عرض المهزوم و إذلاله كان من فضائل القيم البدوية و من مكارمها ، لإرهاب من يليهم من بلدان سلفاً ، اضرب المربوط يخاف السايب ، استباحة دير ياسين أدت لهروب الفلسطينيين من بلادهم أمام اليهود ، و مذبحة قريظة بالحجاز أدت إلى رعب القبائل الأخرى و وفودها للمدينة تعلن الولاء ، السؤال مرة أخرى ، هل كان ضرورياً لنشر دين الله أن تسبي جداتنا لتوزع حتى وصلت سبايانا لذة لأهل اليمن ، بينما كانت جيوش المسلمين لا تزال عند بلهيب بالدلتا . هل كان من لزوم نشر الدين أن تخطفوا حريم بيت جدي لتنكحوهم في أرضكم المقدسة ؟ لقد كان الفتح و النهب و النكح و الإفراط في القتل عوامل تمكين حقيقية للقوة الطالعة ، و لم يكن الدين هو هدف هذا الفتح و لا مبتغاه .
هؤلاء القوم و أسلافهم هم سدنة البيت الأموي السني حتى اليوم ، و كما فتحوا بلادنا و نهبوها و أخرجوها من دائرة الفعل الحضاري ، هم و سلفهم من كانوا الحجر الكؤود في حياة نبيهم (ص) ، و بعد موته ظلت النقمة على بيت النبي الهاشمي ، ظل بنوا أمية يرددون شعر ابن الزبعري بلسان يزيد بن معاوية :
لعبت هاشم بالنبوة فلا * * * * مَلَك جاء و لا وحي نزل
و عن هذا اليقين قضوا على آل بيت النبوة دون أى شعور بالإثم بل أبادوهم من الوجود حتى الصغار الرضع من البذرة الطاهرة تم ذبحهم ، و سبوا نساء هذا البيت الطاهر و صادروا أموالهم و مثلوا بجثامينهم ، وهتكوا عرض بنات الصحابة ونساءهم عندما استباحوا مدينة رسول الله ، و دمروا الكعبة و حرقوها رمياً بالمنجنيق ، و تخلصوا من مخطوطات القرآن العديدة التي حرص على تدوينها صحابة أجلاء كعبد الله بن أبي و كعبداللة بن مسعود و الإمام علي .. إلخ ، فأحرقوا صحائف القرآن ليدونوا المصحف العثماني تحت إشرافهم وحدهم ، و عندما اعترض كبار الصحابة على ما يفعلون بكتاب الله العزيز نكل بهم أشد التنكيل ، منهم من أمر الخليفة بضرب أضلاعه بالأرض حتى تهشمت ، و منهم من ضربه الخليفة بنفسه ( بالشلوت ) فأصابه الفتق ، و الروايات كثير ، و كلها مخجل محزن مؤسف .
هؤلاء القوم باعو الدين مبكرين للسلطان ، و لا تعلم كيف يصدقهم المسلمون اليوم و يتبعونهم ، في خيانة كارثية للإسلام و نبيه رغم أن الجميع يعلم بما حدث ، و أن الخلف المشيخي السلطاني ، أو الإمامي الخليفي ، يحدثنا اليوم بلسان ذلك السلف العربي الذي ركب الإسلام ، في تواطؤ فضائحي يشير إلى خلل عميق في معايير القيم لدينا . المصيبة أن هؤلاء في نظر العوام من يمثلون الإسلام ، بينما يصبح قدحنا فيهم كفران بالإسلام . أترون إلى أين وصلوا بنا ؟ حتي قبلنا الخديعة في ديننا و تواطأنا معهم ومعها ، في فعل فضائحي علني ، و عقد نكاح باطل غير شرعي بين المسلمين و مشايخهم ، لم يقم على الكتاب و السنة ، بل على خيانة الكتاب و السنة علناً جهاراً نهاراً بياناً ، ليس فيه من الشريعة سوى الإشهار الفاضح .
يقول الرجل الصادق الدكتور الريسوني إن الشورى مثل الديموقراطية في مسألة ترجيح رأي الأغلبية على رأي الأقلية ، لأنها ” مسألة فطرية .. و الإسلام فطري يقبل الأمور الفطرية و يبني عليها و يؤسس شريعته ” . و ذلك لأن ” الديموقراطية جزء من الشورى .. هي أداة و وسيلة تنظيمية ، أما الشورى فعقيدة و خلق و سلوك و ثقافة . / نفس الحلقة ” .
إن محاولات تلبيس الإسلام بمفاهيم و مصطلحات بنت زماننا ، كثيراً ما يضر بالدنيا و بالدين ، ناهيك عن كونه يشككنا في الأغراض الحقيقية لفقهاء زماننا إذ يكذبون علينا هكذا بشديد الخفة و البساطة دون أن يرف لهم جفن .
السيد الدكتور يعلم أن الإسلام على المستوى السياسي لا يعرف شيئاً إسمه أقلية أو أكثرية ، أنت مسلم أو غير مسلم ، و ليس هناك وسط بينهما و لا درجات ، و الأقلية المسلمة كانت خير أمة أخرجت للناس دون الأكثرية في كل الدنيا ، تاريخنا السياسي الإسلامي لا يعرف إقلية و أكثرية ، لا يعرف حكومة و معارضة ، فقط يعرف إجماعاً مطلقاً عادة ما يلتقي بالوساطة المشيخية مع إرادة الحاكم ، و عداه لايسمي معارضة و لا أقلية ، إنما ردة بالخروج على الإجماع يكفر بها صاحبها و يستحق القتل ذبحاً .
الإسلام لا يعرف منافسة سياسية على السلطة بين الأكثرية و الأقلية ، لأن الحديث المنسوب للنبي يقول : ” من خرج يدعو لنفسه أو لغيره و علي الناس إمام فعليه لعنة الله فاقتلوه ” ، و ” إذا بويع لخليفين فاقتلوا أحدهما ” . الحل البدوي هو القتل فهو لا يترك المهزوم معارضاً ، الصراع صفري دوماً : إما أنا أو أنت ! و لا وسط ! ، قابيل عندما رفض الرب خضرواته التي قدمها له قربان ، و استطاب اللحم قربان أخيه هابيل ، لم يحاول أن يسأل نفسه عن سبب رفض الرب لقربانه ، و لم يحاول أن يطرح على نفسه وسائل أخري قد يقبلها الرب فيجرب ويحاول مرة تلو اخرى حتى يحقق مرادة ، إنما علي الفورقتل ربع الإنسانية حينذاك ممثلة في أخيه هابيل ، قصة بدوية صفرية الصراع ، لا حل عندها للمشاكل سوى ازالة العقبات بالقتل ، نتعلمها في الطفولة لتصبح لنا مثلاً و منهجاً عند اليفوع . كل شئ أو لا شئ ، أنا أو أنت !!
عرب إسلامنا لم يعرفوا في جزيرتهم المتبدية شيئاً اسمه انتخابات ، فالدكتور الريسوني يشرح لنا الفرق العظيم بين ديموقراطية الغرب و شوري الإسلام بقوله : ” الشورى حسب أحد الفقهاء المالكية هي : على الأمير أو السلطان أن يستشير قادة الجند فيما يخص الحرب و القتال و السلم ، و ما إلى ذلك ، و أن يستشير وجوه الناس فى مصالح الناس ، و أن يستشير الكتاب في مسائل الإدارة . . إلخ / الحلقة نفسها ” .
و هكذا نجد الأمير أو السلطان قد تسلطن أصلاً دون أى دور لهذا الشيئى المسمى شورى في سلطنته ، و معلوم أن البيعة شقيقة الشورى في النظام السياسي الإسلامي ، هي عقد إذعان و إعلان ولاء للنظام ،الذي تسلطن مسبقاً و جلس يطلب من المسلمين الاعتراف بسلطانه ، كذلك كانت معظم الولايات في تاريخنا تقع تحت بند خلافة المتغلب ، أى الذي غلب الناس بسيفه و عسكره وشوكتة .
و هكذا تصبح البيعة و الشوري عملية إكساب شرعية لنظام غير شرعي و ليست العكس ، و لا علاقة لها برأى أغلبية و لا أقلية ، و لا تعرف شيئاً اسمه الترشيح أو المنافسة أو الانتخاب أو حتى الاختراع العروبي الثوري المسمي استفتاء .
و بعد أن يتسلطن المتغلب و يأخذ الشرعية يسوق الناس لبيعته بالزواجير وهو ماحدث فى أخذ بيعة الإمام على والهاشميين لأبى بكر قهرا، ….” من قهر الناس بجنده و تغلب عليهم بشوكته ، لا يبيت المسلم مسلماً و هو لا يراه أميراً له ” ، هذا حديث آخر منسوب للنبي ما أنزل الله به من سلطان لشرعنة اللاشرعية ، فقط بحجة وأد الفتنة .
و بعدما يتسلطن المتغلب و يحشر الناس لبيعته ، و يأخذ الشرعية بالرضى الكهنوتي ، قد يستشير أهل العلم في الدين ، و قادة الجند في القتال ، و قد يستشير الكتاب في الإدارة . الدكتور الريسوني لكثرة ما طال به العهد وسط كتب التراث تحول هو نفسه إلى تراث مُعلب ، لازال أسلوب الحكم عنده هو سلطة واحدة و خليفة واحد يدير كل شئون الإمبراطورية ، لكنة خليفة ديمقراطى يشاور وجهاء سلطنته في كل شأن.
و يبقي السؤال يحيرنا حول معنى لقب دكتور و لقب مستشار و لقب فقيه و كلها صفات السيد الريسوني . و وجه الحيرة قوله مع كل هذه الألقاب السنية أن الأخذ برأى الأغلبية مسألة فطرية و أن الإسلام مع هذا المبدأ لأنه دين الفطرة . بينما ما حدث في تاريخنا أن المستبد الحاكم ممثل الأغلبية بحكم شرعيته الدينية ، ما كان يسمح أصلاً بظهور أقلية أو معارضة ، و حتى عندما كانت تثبت تلك المعارضة وجودها ، فذلك لأنها صارت في موطنها أكثرية كالمذهب الشيعي في إيران و العراق مثلاً . أو ليشير لنا الدكتور في تاريخنا عن هذه المعاني ، فقط هو يعتمد الشورى ، و هو شأن يعني طلب النصيحة و لا علاقة له بالديموقراطية كمنظومة سياسية حقوقية ، هو شئ أقرب إلى المهلبية منه إلى الديموقراطية.
و لا يجد الفقيه الريسوني حرجاً عندما يأخذ برأي الأغلبية ليؤسس عليها شرعيته ؟ ! أى حديث هذا ؟ و أي عبث ذاك ؟ إذا كان القانون الذي سيحكمنا هو الشريعة ، و الشريعة التى هى من عند الله ، و لم يستشرنا ربنا عندما وضعها لنا ولا أخذ رأى أحد فيها ولاحتى أنبيائة ، فما المعول علي الأغلبية هنا ؟ ماذا سيكون دورها ؟ و كيف سيكون هذا الدور مع شريعة هي أوامر و نواهي لا مجال فيها لرأي و لا استفتاء و لا أقلية و لا أكثرية ، فلا اجتهاد مع نص و لا إنكار لمعلوم من الدين بالضرورة . ومن ثم لن يبقي من الديموقراطية شئ ، إنما تبقى الشورى التي تلائم ظروفنا و ديننا ، سيستشيرونا إن شاء الله في الشئون التي تخرج عن دائرة الدين ، فإذا كانوا قبل أن يحكموا جعلوا كل شئ داخل دائرة الدين ، فما هو شأنهم يوم يركبون الكراسي الكبيرة ؟
و المعلوم أن الإسلام قد بدأ مع مسلمين أقلية فانحاز للأقلية مبكراً ، و دعمها و خصها بالخير و ذم الأكثرية و دمغها بالشر ، ” و إن تطع أكثر من في الأرض يضلوك ” ، ” و لن تغني عنكم فئتكم شيئاً و لو كثرت … ” ( 19 / الأنفال ) ، ” قل لا يستوي الخبيث و الطيب و لو أعجبك كثرة الخبث ” ( 100 / المائدة ) ، ” و يوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم فلن تغني عنكم شيئا ” ( 25 / التوبة ) ، ” منهم أمة مقتصدة و كثير منهم ساء ما يعملون ” ( 66 / المائدة ) ، ” و فضلناهم على كثير مما خلقنا تفضيلا ” ( 70 / الإسراء ) ، ” و قالا الحمد لله الذي فضلنا على كثير من عباده المؤمنين ” ( 15 / النمل ) ، ” فمنهم مهتد و كثير منهم فاسقون ” ( 26 / الحديد ) ، ” ثم إن كثيراً منهم بعد ذلك في الأرض لمسرفون ” ( 32 / المائدة ) ، ” و ترى كثيراً منهم يسارعون في الإثم و العدوان ” ( 62 / المائدة ) ، ” و إن كثيراً ليضلون بأهوائهم بغير علم ” ( 119 / الأنعام ) ، ” و لقد ذرأنا لجهنم كثيراً من الجن و الإنس ” ( 179 / الأعراف ) ، ” إن كثيراً من الأحبار و الرهبان ليأكلون أموال الناس بالباطل ” ( 34 / التوبة ) ، ” و إن كثيراً من الناس عن آياتنا لغافلون ” ( 92 / يونس ) ، ” و إن كثيراً من الناس بلقاء ربهم لكافرون ” ( 8 / الروم ) ، ” كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله ” ( 249 / البقرة ) ، ” إن الله لذو فضل على الناس لكن أكثر الناس لا يشكرون ” ( 243 / البقرة ) ، ” و لكن أكثرالناس لا يؤمنون ” ( 1 / الرعد ) ، ” فأبي أكثر الناس إلا كفورا” ( 89 / الاسراء ) ، ” ذلك الدين القيم و لكن أكثر الناس لا يعلمون ” ( 30 / الروم ) ، ” و ما أنزل إلينا من قبل و إن أكثركم فاسقون ” ( 59 / المائدة ) ، ” نبذة فريق منهم بل أكثرهم لا يؤمنون ” ( 100 / البقرة ) ، ” منهم المؤمنون و أكثرهم الفاسقون .. ” ( 110 / آل عمران ) .
و رغم تحول المسلمين إلى أكثرية فيما بعد ، فإنها لازالت تقوم بدور الأقلية المطهرة كالشعرة البيضاء في الثور الأسود ، و هي التي اختارها الله خير الأمم ، و مهمتهم تحويل هذه الكثرة المخالفة إلى الإسلام ، فالأقلية هي الطيبة المتسامحة التي يقع عليها الاضطهاد و عبء الدعوة و الجهاد لأنها الصواب المسلم . و الحقيقة أنها ليست أكثرية و لا أقلية بما نفهمه منها الآن ، و لا علاقة لها بمعنى الأقلية و الأكثرية السياسية ، هي شأن ديني طائفي خالص ، و عندما كان الشأن واضحاً كشأن سياسي تماماً زمن الرعيل الأول ، لم يحدث أن تم تفعيل مبدأ الأكثرية ، فقد اختار أبو بكر الحرب على أهل الردة رغم معارضة أكثرية الصحابة و على رأسهم عمر ، و اختار عمر عدم الخروج على رأس الجيوش و أناب عنه قواد الفتوح ، رغم استشارته لعشرة من الصحابة فقال تسعة منهم بوجوب خروجة على رأس جيوش المسلمين ، و واحد فقط ( عبد الرحمن بن عوف ) قال ببقائه في المدينة ، فأخذ برأي الواحد . و الأمثلة أكثر من الحصر .
هناك لون أخر من الكذب لا يلجأ لتلبيس المفاهيم ، إنما هو يكذب بشكل ( قارح ) على نفسه و علي تراثه و علي المسلمين المفترض أنهم يأمنونه على دينهم و أخلاقهم .
الدكتور فيصل مولوي الأمين العام للجماعة الإسلامية الدولية ، مشغول مثل كل زملائه فقهاء أو دعاه أو جماعات بإقامة دولة إسلامية معاصرة ، فهو يؤمن بالمعاصرة كحل لتخلفنا وضعفنا ، لكنه لا يريد أسباب القوة المعاصرة ، من عصرنا ، يريدها من تراثنا ، من عصر مضي عليه أكثر من أربعة عشر قرناً ، لذلك يفرض على هذا التراث مفاهيم لم يعرفها العالم إلا قبل قرنين أو ثلاثة من الزمان ، لا لشئ ، إلا لحشر الإسلام في كل شئ .
يواجه مولوي هنا معضلة وجود مواطنين غير مسلمين في الدول المسماة إسلامية ، و أن الإسلام يفرض عليهم الجزية ، و أن الجزية انتقاص من المواطنة ، فالمواطن يدفع ضريبة الجزية بسبب اختياره ديناً غير ما ارتضته الدولة لنفسها . و بسبيل إثبات حداثة الفكر الإسلامي السياسي ، يتنكر مولوي عن قصد لمعلوم من الدين بالضرورة فيقول : ” ليس هناك مبرر لأن تفرض الجزية على هؤلاء ، لأن الجزية تفرض بعد حرب و لا تفرض بعد اتفاق ، و مع ذلك حتى بعد الحرب ، ربما يحصل صلح بين المسلمين و غير المسلمين و لا تكون فيه جزية ، و قد حصل هذا أيام عمر بن الخطاب ( رض ) عندما أراد المسلمون أن يفتحوا بلاد النوبة و لم ينجحوا فيها ، فصالحوا أهلها بغير جزية / المواطنة فى الفقه السياسي الإسلامي / الشريعة و الحياة / الجزيرة ”
الدكتور مولوي يقوم بدور المحلل بين المطلقين ثلاثاً في بينونة كبرى ، فينكر المعلوم طوال تاريخ الإمبراطورية الإسلامية و المعلوم من الشرع و الدين بالضرورة ، لأن الجزية مقصود منها الإذلال و الصغار ( وهم صاغرون ) ، وهي بمفاهيم اليوم الحقوقية تعد انتقاصاً من حقوق المواطنة بسبب دين دون دين .
لو مد مولوي الحبل على استقامته و أنكر و استنكر الجزية التاريخية و الشرعية ، بحسبانها ما كانت تليق حتى بزمانها حتى نقبلها في زماننا ، حسب المقاييس الأحلاقية ، بل تتناقض مع القيم الدينية الدعوية ، فإذا كان المقصود من الجهاد و الفتوحات نشر الإسلام ، فلماذا قبل المسلمون بأخذ الجزية بغض النظر عن دين دافعها ، بغض النظر عن دينة حتى لوعبد بقرة ، فهل كانت الدعوة في سبيل الله أم في سبيل جمع الأموال ؟
و قد أرسل النبى فيما نؤمن داعياً لا جابياً ، و كان بإمكان الريسوني وضع الحدث في زمنه و تاريخه للخروج بأسبابه الموضوعية ، والاعتراف المتواضع أنها كانت أسباب محلية لا علاقة لها بظرفنا اليوم .
لو فعل ذلك لقدرنا و فهمنا و بصمنا بالعشرة ، لكنها المنطقة الملغومة التي لا يريدون لا الخوض فيها ، ولا ترك غيرهم يفكك ألغامها ، و يسمحون لأنفسهم بإنكار معلوم من الدين بالضرورة ، و يرمون من يخاطرون بتفكيك تلك الألغام بالضلال و الزندقة و الكفران . لذلك يلجأون للمداورة و التضليل و التجميل في كذب مفضوح لا يليق بالدعاة الكبار .
مولوي ينكر المعلوم بالضرورة ليس بسند من حديث و لا لآيات و لا فقه و لا لحالة متكررة في التاريخ ، إنما يذهب يبحث و ينقب في تاريخ الغزو العربي لدول الحضارات التي شاء جظها العاثر أن تجاور جزيرة العرب ، فلا يجد سوى حالة يتيمة لم يتمكن فيها العرب الغزاة من احتلال النوبة المصرية ، و أصاب الإجهاد الشديد الطرفين ، و سجل النوبيون بذلك بطولة غير مسبوقة لأنهم كانوا يحسنون الرمي الدقيق بما يصيب مباشرة عيون الأعداء ، لذلك سماهم العرب ( رُماة الحدق ) . و انتهي الموقف بشبه انتصار للعرب فرضوا بموجبه على أهل النوبة أن يرسلوا للعرب عدداً منهم سنوياً ، ليستعبدوا للعرب بعد أن كانوا أحراراً في بلادهم .
هذه هي الحكاية ، و يعلمها مولوي جيداً و إلا ما رصدها وسط تاريخنا الهائل كماً و كيفاً ليجعل منها تكأة لتبرير محاولته كمحلل للطلاق البائن بالجزية بين المسلمين و غير المسلمين ، و هي لاشك محاولة مشكورة ، لكنها تلفيقية لا تحسم الأمر بقدر ما تتحايل عليه . إضافة إلى اعتمادها الكذب ، فما أحوجنا لفضيلة الصدق إذن !!
و هو إذ ينكر ضرورة الجزية القرآنية لم يتمكن من اقتحام العقبة الكؤد العمرية ( عهد الذمة – أو عهد الذلة ) ، فإذ به يقول : ” المشكلة في مصطلح أهل الذمة عند كثير من الناس ، هي مشكلة الجزية ، و ليست مشكلة أهل الذمة ، لأن الذمة هي عقد ، و العقد يتم بالتراضي بين المسلمبن و بين انسان غير مسلم يريد أن يعيش معهم ، أو هو أصلا يعيش معهم ، هم أسلموا و هو بقي على دينه ، و حصل أن من أسلموا صاروا أكثرية ، و أرادوا أن يحتكموا إلى شريعة الله ، فهذا عقد الذمة يتم بالتراضي على كل بنوده ، لكن ما حصل أن عقد الذمة عندنا يكون بعد حرب ، و الحرب عادة يبدأها غير المسلمين ، و المسلمون فيها مدافعون عندما خاضوا هذه الحروب ، و انتصروا و قضوا على هؤلاء بدفع الجزية علامة خضوعهم لهذا المجتمع الجديد ليس أكثر . . لذلك فالأهم في عهد الذمة هو خضوع هذا المواطن للأحكام التشريعية الدنيوية العامة للدولة ، فإذا أخذت هذه الأحكام من الشريعة الإسلامية أو غيرها ، فعليه أن يخضع لها ، لأن هذا هو معني المواطنة . المسلم الآن في أوروبا يخضع للقوانين العامة ، كذلك على المسيحي في بلاد المسلمين أن يخضع للقوانين العامة ” .
و هكذا غرق الرجل في مستنقع الكذب بكله و كليله حتى أنفة، و هو عالم بما يفعل ، فأي جلل أصابنا في مشايخنا و قاماتنا الطوال ؟ !
مولوي الأمين العام لمسلمي المشرقين ومسلمى المغربين ، يري أن غير المسلمين في الدولة الإسلامية المرتقبة لن يدفعوا الجزية ، في مجاملة و تنازل لطيف لا يملكه لأنه منكر لمعلوم ضروري من الإسلام ، لن يقره زملاؤه عليه عندما يجد الجد و ينتفي الهزل ، و في مقابل هذا التنازل الباهت غير صادق النوايا ، على غير المسلمين أن يقبلوا بعهد الذمة ، و يعرفه بأنه عقد يتم بالتراضي بين المسلمين و غير المسلمين في بلد واحد . ليس هذا فقط ، بل عليهم قبول تطبيق الشريعة الإسلامية و خضوعهم لها لأن الشريعة في الدولة المرتقبة ستكون قوانين عامة للدولة ، و أنه كما يخضع المسلم القاطن ببلاد الغرب لقوانينهم العامة ، كذلك على المسيحي في بلادنا أن يخضع لقوانينا العامة كما لو كان هؤلاء مغتربين عندنا كما بعضنا مغترب في بلاد الغرب . و بعد أن يخدعنا بكذبة أن عقد الذمة يتم بالتراضي ، يعود ليعترف أن التاريخ الإسلامي كله لم يعرف أى عهود للذمة كتبت سلماً إنما كانت دوماً إثر حروب ضروس ، و بالطبع وفق شروط المنتصر ، و ذلك المنتصر كان الفاتح الإسلامي ، و تلك الشروط مجرد تكرارها هنا مخزي و محزن و مخجل ، ( أمثلة سريعة لبعض بنود عقد الذمة العمري مع مسيحي فلسطين : أن يكون لهم زياً خاصا ً حتى لا يتشبهوا بالمسلمين و حتى يعرفهم المسلمون من زيهم ، مع شد زنا على أوساطهم ، و ألا يعلوا ببنيانهم أعلى من المسلمين ، و لا يسمعونا صوت نواقيسهم ، و لا تلاوة كتبهم و لا قولهم في المسيح ، و لا يجاهرون بالخمر و الصلبان و الخنازير ، و أن يدفنوا موتاهم بعيداً عن مقابر المسلمين و لا يرفعوا أصواتهم على موتاهم ، و يمنعوا من ركوب الخيل لأنه مركب كريم شريف ، و يسمح لهم بركوب الحمير دون برذعة إنما على الأكف ( الليف الخشن ) و يكون الركوب من جانب واحد ، فإن صادف مسلماً ماشياً عليه النزول عن حماره و اللجوء إلى أضيق الطريق ليفسحه للمسلم ….. إلخ …. ألخ ” .
و مع التعامي التام و التغافل المقصود عن تلك البنود يستمر مولوي يقول : ” إنه من أجل المحافظة على كرامة هؤلاء سموا أهل ذمة ، كلمة ذمة ليست كلمة تعني شئ من الإذلال ، أو تعني شيئاً من تجاوز الحقوق ، بالعكس ، تعني أن هذا الإنسان في ذمتي ، يعني أنا مسؤول أمام الله أن أحافظ عليه و علي حقوقه و علي كرامته و على المساواة بينه و بين جميع الناس . . و لدينا الحادثة المشهورة عن الغلام القبطي الذي ضربه ابن عمرو بن العاص . . عاد و هو يشعر بالمساواة و لم يدخل في دين الله ، لأن الإسلام تقوم شريعته أساساً على المساواة في المواطنة ” .
كان علي السيد الدكتور أن يقول أن لديه عهداً جديداً للذمة ، لأن ما يقول لا علاقة له بالمرة بعهد الذمة العمري المشهور ، و لا بفقه الأموال و الحسبة الذي يدرسه أبناؤنا في أزهرنا الميمون ، كان عليه أن يقول : هذا عهد ذمة جديد نتعهد به لغير المسلمين في دولتنا الإسلامية المرتقبة ، و حتى لا ينصرف الذهن لأي خديعة متربصة بنا ، عليه أيضاً أن يعلن إدانته لعهد الذمة العمري و كل العهود الشبيهة به في تاريخنا الإسلامي .
الأشد سوءاً و نكاية في كل القيم ، أن يكذب المحترم بفداحة و يردد كذبة تاريخية قد آن أوان مراجعتها و الاعتذار التاريخي العلني الدولى عنها و إدانتها . و توقيع عقولة على من يقول بها ، بالضبط كما فعلت دول أوروبا بعقوبة منكر الهولوكسث ، كذبة يرددها المشايخ جميعاً بلا استثناء ، تدين المشيخة و الدين و هيبة رجل الدين .
ألا ترون الرجل الصادق المؤمن يقول : ” عقد الذمة عندنا يكون بعد حرب ” ، و قال قبلها أنه يتم بالتراضي و القبول السلمي بين الطرفين ، لكنه يعلم أن أحداث التاريخ الإسلامي لا تقول ذلك ، فيبرر عقد الذمة القهري الذي تم إثر شن الحروب على البلاد المحيطة بالجزيرة ، باستطراده المفزع الصادم ، ” و الحرب عادة كان يبدؤها غير المسلمين ، و المسلمون كانوا فيها مدافعين عندما خاضوا هذه الحروب ” ، و لما انتصروا فرضوا الجزية على المهزومين علامة الخضوع ، و في رأيه يمكن اسبدال هذه العلامة ( الجزية ) للخضوع بعلامة حداثية متحضرة ، هي الخضوع للقوانين العامة للدولة ، التي هي عنده الشريعة الإسلامية ، فيكونوا قد استجاروا من الرمضاء بجهنم .
هل يشير لنا الدكتور و كل الدكاترة و الدعاة ذوي الوجاهة و المناصب علماء الأمة ، إلى الحادثة التي أعتدت فيها مصر على الجزيرة ، أوالعدوان الذى ارتكبة أهل العراق أو فلسطين أو الشام أو افريقيا حتى الأطلنطي ، أو كل بلاد ستان حتى الصين و كيف كانت حملاتهم العسكرية على نجود الحجاز الفاضلة و مدنه المقدسة ، و متى حدث هذا؟ أم ان حرب الفتوح والغزو كانت حرباً استباقية قام بها العرب ، لا تقوم على حشد المعلومات عن العدو ، إنما تقوم على قراءة نياته العدوانية ؟ و لماذا كانت نيات كل تلك البلاد المفتوحة فريبة وبعيدة هي مهاجمة المسلمين بالحجاز، وهومالم يحدث و لا مرة واحدة ؟ فجاء العربي و احتل البلاد و أسر العباد واستعبد الأطفال و نهب الحلال و نكح النساء ، كرد فعل على قراءة النوايا بهجوم مفترض كانوا سيقومون به على المسلمين ؟
إن هذه الرؤوس و الهامات لا حل لها ، و لا حل لديها ، و لو كان لديهم حلول لحلوا من زمان ، ألف و اربعمائة سنة يحمون الدين و يجلسون على أكتافنا يبررون كل المظالم و لم يقدموا يوماً حلاً ، حتى بات العالم كله يطالبنا بالإصلاح ، فهل تراهم و حالهم هذا بقادرين على إصلاح أى شئ ؟
الرجل يطلب من غير المسلمين في بلادنا الخضوع للشريعة كما يخضع المسلم المهاجر فى الغرب للقوانين العامة هناك ، لأن قانوننا العام هو الشريعة ؟
أترون دكتوراً يعرف بسائط المنهج العلمي يقول كلاماً مثل هذا ؟ إن الدكتور يعرف يقيناً معنى القانون العام ، فهو الذي ترتضيه كل أطياف و ملل و ألوان و نحل المجتمع في عقد اجتماعي سلمي ، لذلك يعبر عن المصالح المشتركة لجميع المواطنين على ألوانهم دون أى طائفة أو دين لأنهم هم واضعوة وليس مقررا سماويا لدين بعينة ، بينما مولوي يضع الشريعة الإسلامية قانوناً عاماً من عندياته باحتسابه ذلك مسلمة بدهية ، و دون اختيارها من كل أطياف المجتمع ، و دون أن تعبر عن الصالح الاجتماعي العام بقدر ما تعبر عن رؤية ومصالح طائفية دينية بحت. أترون حجم العيب و ما يستشعره الدكتور من عار فيخفي السوءات بأوهام تشف و لا تستر .
و لا ينسي مولوي في ملحمة الكذب أن يضيف الكذبة المشهورة عن المصرى (ويسمية القبطى ) الذي سبق بن عمرو بن العاص فضربه ، فشكي للخليفة عمر فأمر أن يقوم ابن الأذلين بضرب ابن الأكرمين قائلاً قولته المشهورة : متى استعبدتم الناس و قد ولدتهم أمهاتهم أحرارً ، لأن ذلك الزمن كان زمن عبودية ، و لا يضرب إلا الحيوان و العبد ، فلما ضرب بن عمرو المصري الذي سبقه ، استفزت الخليفة العادل عمر ، لكن ليس لأن المظلوم قبطي ، لأنة كان عربياً يمنياً ، مصرياً ، أى حراً من عرب مصر ، ولأنه لا يجوز أصلاً السباق بين عربي مسلم و قبطي لفداحة المسافة بينهما ، لأن القبطي في الشرع الإسلامي أدني درجة في الحقوق من العبد المسلم ، وغير مسموح لة بركوب الخيل أصلا .
أما المساواة في المواطنة فقد قلنا وعدنا بشأنها و زدنا ، فليرجع من أراد المزيد لأعمالنا المنشورة ، فالإسلام و العرب لا يعرفون شيئاً اسمه المساواة ، بل يقسمون الناس منازل و انساب و رتب تختلف حقوقاً و واجبات ، و أهم علومهم علم الأنساب الذي هو علم عدم المساواة ، الذى يكاد يكون العلم الوحيد عند العرب .
فإذا كانت هذه أخلاق الصدق لدي الرواد المشايخ الدكاترة العلماء الهامات الطوال ، فهل ما نراه من تردي فضيلة الصدق في شارعنا الإسلامى ، هو ترديد الصدي لإسلام مشايخ الإسلام السياسي الذين استباحوا كل الفضائل في سبيل الغرض السياسي ، فكانوا المثل المعلم لشعوبهم في انعدام الأخلاق و القيم ؟ .
يبدو أننا بحاجة ماسة إلى الصدق مع أنفسنا و مع تاريخنا دون شعور بدونية و لا خجل ، لأنه لا يصح قياس زمن الدعوة على زماننا ، فهو ظلم لزمانهم في الفهم و الفكر ، حتى لا نضطر طوال الوقت إلى الكذب و التضليل ، فنعتاد الكذب حتي يصبح هو حقيقتنا بينما يعلم العالم كله و يري سوءاتنا ، فالكذب لا يستر و الوهم لا يصلح ما لا يصلح لزماننا .
وجه المصيبة هنا توافق مشايخنا على الكذب ، و يبدو لنا بحكم أنهم علماء دين ، أنهم على علم تام بتفاصيل ما يكذبون بشأنه على المسلمين ، الذين ليس في طاقتهم تحصيل المعارف الدينية التي حصلها المشايخ .
إن هذا التواطؤ على الكذب يشير إلى شرعة عربية إسلامية ، فالكذب في سبيل الله مطلوب ، و في الحديث كذب إبراهيم ( النبي ) ثلاث كذبات كلها في الله : عندما قال إني سقيم ، و عندما قال فعلها كبيرهم هذا ، و عندما قال لفرعون عن زوجته سارة أنها أخته . الكذب مطلوب تقية و مداراة إذا كان الصدق سيضر بالمسلم أو بدينة، علماء الحديث حبذوا أحاديث يعلمون أنها مختلقة مكذوبة ، لأنها تؤدي إلى مصلحة أو تحث على فضيلة . فأنظر يا مؤمن ولا تعجب من الوسيلة لبلوغ الفضيلة ؟ !!!
و لازال لنا مع الفقهاء التقاة الصادقين حوار .. و حديث قد يطول .
د. سيد القمني
2007 / 5/31