الدفوع الشرعية عن المفتى وعطية
هذا الموضوع مهدى إلى الأستاذ عادل مجاهد و المجموعة الليبرالية
كان الشعور بالعار و الخجل هو سيد الموقف في أزمة الفتاوي الأخيرة ، و التي أثارتها فتاوي صادرة عن كبار المتخصصين في الشأن الإسلامي ، فإحداهما صدرت عن رئيس قسم الحديث بكلية أصول الدين بجامعة الأزهر و أفتى بها بناء على معرفته بالحديث و لأنها قامت على حديث صحيح ، و الأخرى صدرت عن مفتي الجمهورية ، و ليس بعد ذلك منصباً دينياً سوى السماء.
كشفت الأزمة عن مدى معرفة المسلمين بدينهم الذي له يتعصبون و من أجله يبذلون الغالي و النفيس ، فإذ بهم أشد الناس جهلاً به ، لأنهم تحولوا عن المعرفة المباشرة به و درسه أو الإطلاع عليه ، إلى معرفته معرفة شفاهية إذاعية تليفزيونية ، فإذا بهم يكتشفون في أيام معدودات مدى فقرهم المعرفي المدقع بدينهم ، فيثورون ثورة جهول غشوم على فتاوي تقوم على أصول إسلامية لا شك فيها .
المفزع أيضاً كان من حملة الأقلام من مثقفينا و مذيعينا الأشاوس ، فإذ بهم مشدوهون مدهشون دهشون يطالبون بالويل و الثبور و عظائم الأمور ضد الذين يفتون فيسيؤن للإسلام و للرسول ، فيكشفون المستور ، فيجب أن يظل المستور مستوراً ، و يكون التجريم من نصيب المتخصص العارف المتبحر في علمه الذي أصدر الفتوى ، لأن عامة المثقفين رأت في فتواه تجريحاً للإسلام و للرسول ، لأن العامة المثقفة فقط لم تكن تعلم . و عندما علمت رفضت و احتجت و أنكرت الحديثين و الحدثين التي قامت عليهما الفتوى ، و هما من صلب سيرة النبي و لهما رجع وصدى في قرآننا و تقوم عليهما أحكام في علوم الفقه ، و أجمعت عليهما كتب السير و الأخبار و التاريخ و التفاسير و الفقه ، و لا يخلو منهما فرع من تلك الفروع الإسلامية العريقة العتيدة .
أثبت الحدثان أن مثقفينا المسلمين لا يقرأون ، بل أنهم لا يقرأون أخص ما يخصهم ، تراثهم العزيز عليهم الذي ينافحون عنه ، آناء الليل و أطراف النهار ، فإذ بهم يعاركون من أجل شئ لا يعلمون عنه شيئا . و كعادة مثقفينا مع المشاكل المتفجرة ، هو العمل على دفنها بسرعة لإهالة النسيان عليها ، و مع السرعة و على عادة إكرام الميت بسرعة دفنه لا يفكرون حتى في نزع فتيل المشكلة المتفجرة ، بل يتم دفنها كلغم موقوت ممكن أن يتفجر في أي لحظة . فتتم الضغوط الهائلة على الدكتور عزت عطية ليعلن خطأه و أسفه و اعتذراه و تراجعه عن فتواه ، مما انتهى به إلى مجلس تأديب مع إيقافه عن العمل ، بينما سحب المفتي الدكتور علي جمعه كتابه من الأسواق ، لكن دون أن يطاله هذا العزل لفارق المنصبين .
و بعد الدفن و التأبين و إنزال العقوبة بالأبرياء من علماء الإسلام ، عاد المسلمون سعداء كراماً بعد أن تخلصوا من العار ، بينما يعلمون يقيناً أنها مدونات مقدسة تدرس حتى الآن في معاهد الأزهر ، و ستظل موجودة لأنها ضمن تراث يرتبط ببعضه البعض و تنبني عليها أحكام و له أسباب موضوعية زمن الدعوة ، و كل ما تمكنوا من فعله هو إيقاف اللغط ، إسكات القول و السؤال ، و ترك كل شئ كما كان عليه قبل زوبعة الفتاوي .
تعالوا معي نعمل شيئاً آخر ، نعمل شيئاً لا يدفن التراث و لا ينفيه ، و أيضاً لا يخجل أو يستشعر العار منه ، تعالوا نقرأ الحقائق مجردة لنعمل فيها العقل فربما عثرنا على حل أكثر عائدية علينا بالطمأنينة و ليس بالعار، و باحترام التراث و ليس بدفنه ، و إعادة الحقوق إلى أصحابها ، و الطمأنينة للمسلمين .
ان الدكتور عزت عطية عندما أفتى برضاع الموظفة لزميل العمل ، مستنداً إلى السيدة عائشة التي أمرنا نبينا أن نأخذ نصف ديننا عنها ، كان مشغولاً بحل مشكلة لأهله و أحبابه من المسلمين و مهموماً بهم ، فهو رجل قد سلم بعدم إمكان عودة المرأة إلى البيت مرة أخرى ، و أن خروجها إلى العمل الوظيفي أصبح جزءاً من تركيب نظامنا الاجتماعي الحديث و هو موقف يحمد له مبدئياً .
كان مشغولاً بمسألة الحجاب الذي استحدث المتأسلمون فرضه على المسلمات رغم الثبوت الديني أنه كان شأناً خاصاً بنساء النبي و لا يطلب من المسلمة العادية سوى تغطية الجيب أي الثديين ، و رغم الثبوت الطبي القطعي العلمي بضررالحجاب على الدماغ و تأثيره على عمل هذا الدماغ ، و أذاه لفروة الرأس و ضرره الشديد و البالغ لشعر المرأة التي زينها الله به ، و أن هذا الشعر و الدماغ بحاجة إلى ضوء الله و هواءه و أشعته ، فقام يقدم للمسلمات حلاً من شريعتهم لتتمكن الموظفة من خلع الحجاب أمام زميل العمل دون حرج ، و أن يتبادلا الحديث لمصلحة العمل دون تحرج ، و ليتمكنا من الخلوة لضرورات قد يفرضها العمل دون حرج ديني أو ضرر بالسمعة .
الرجل صادق اليقين بإيمانه و دينه فيما فعل ، فقال ما قال ، و ما أراد إلا خيراً ، فلجأ إلى حديث رضاع الكبير ، الذي لم يكن حديثاً فقط ، بل حديث مصحوب بالتطبيق الفوري الناجح ، فقد لجأت سهلة بنت سهيل زوجة الصحابي الجليل أبي حذيفة إلى رسول الله ( ص ) ، تشكو له ما تجده في وجه زوجها أبي حذيفة من عدم الرضا وهو يرى ربيبه سالم قد كبر و أصبح رجلاً بالغاً ناضجاً يدخل على زوجته و يخرج ، فقال لها الرسول : ” إذهبي فارضعيه ، قالت : كيف أرضعه و هو رجل كبير ، قال ( ص ) : ألا أعلم أنه رجل كبير ؟ إذهبي فارضعيه ” .
المهم أن سهلة صدعت بالأمر النبوي فأرضعت ربيبها سالم بعد بلوغه مبلغ الرجال خمس رضعات ، فما عادت ترى في وجه زوجها شيئاً يكدره من بعدها .
الأهم من ذلك أن السيدة عائشة أم المؤمنين تمسكت بهذا الحديث بعد وفاة النبي بل و طبقته و عملت به ، فقد كانت بحكم موقعها من الدعوة مرجعاً لسؤال المسلمين الدائم ، و حتى يكون السائل محرماً عليها فإنها كانت تأمر بنات أخيها و بنات أخوتها بإرضاع السائل أولاً ، ثم يلقاها و يطرح استفساراته و حواره معها من بعد أن يكون قد أصبح محرماً عليها بهذه الرضاعة .
الدكتور عطية يؤمن عن يقين بهذا الحديث و يصدق ذلك الحدث ، و أن هذا الإرضاع قد حول مشاعر الجميع ( أبو حذيفة و سهيلة و سالم ) إلى مشاعر راقية بعد الصدوع بالأمر النبوي ، انتفت منها جميع النوازع الغريزية ، بدليل ذلك الحديث ، و بدليل نتائج تطبيق الحديث . و من ثم قرر الرجل مساهمة منه في حل مشاكل مجتمعه المعاصر التي يسببها رجال الدين كفرض الحجاب و تحريم الخلوة ، بفتوى دينية يمكن بها التخفيف عن الناس ، و تحرير الرأس من الحجاب فترات مناسبة أمام زملاء العمل ، و ذلك بأن على كل موظف تفرض الظروف عليه الخلوة بموظفة أن يرضع منها خمس رضعات ، فتتحول الغرائز إلى لطائف سماوية و قطوف ربانية فلا يعود يفكر فيها كإمرأة إنما كشقيقة أو أم ، باختصار كأخت في الإسلام .
يقول الدكتور عطية مبرراً فتواه بعدة وجوه كلها سليمة شرعاً ؛ ” إن رسول الله هو الذي رخص في ذلك ، . . و في الأعمال الدينية يستشعر المؤمن عبوديته و خشوعه لله فتنمحي النواحي الشيطانية ، و إنه أحداً من دارس الحديث و أئمته لا يمكنه أن يشكك في أن حديث إرضاع الكبير حديث ثابت و صحيح . . و لو كان رضاع الكبير فيه أدنى شك لعاتب الله نبيه في تشريعه ، و لثار الصحابة جميعاً على عائشة ” . و في توضيحه لطريقة رضاع الكبير و الغرض منه ، قال فضيلته : ” أن المرأة في العمل يمكنها أن تخلع الحجاب أو تكشف شعرها أمام من أرضعته ، و هذه هي الحكمة من إرضاع الكبير ، و أن الإرضاع يكون بالتقام الثدي مباشرة ” .
و يرد من رأى في فتواه مجافاه لزماننا و تقاليده و أعرافه بقوله : ” إن أحكام الإسلام ترتبط بذات الإنسان عبر الأزمان و الأماكن ، و ذات الإنسان لم تتغير . . و من أرذل الرذائل استقباح أو النفور من أمر الرسول . . فالله أدرى بمصالح عباده ” .
كانت تلك أقوال د . عزت عطية للعربية نت و الوطني اليوم ، و قد استمر مصراً على فتواه مدافعاً عنها فقال في النيل الثقافية : ” لو رضع كل الناس من بعضهم فهذا فائدة للإسلام ، لأن كل رجل سيحترم المرأة و لن يؤذيها . و بشأن من يقول أن هذا الحديث ينطبق على حادثة أبي حذيفة فقط ، فلماذا إذن استخدمته السيدة عائشة و لم يكن ذلك اجتهاداً منها ، لأن من يطبق النص لا يكون مجتهداً ، أما من يعارضه فليأت بالدليل ” . و يشير إلى أن أم المؤمنين حفصة بنت عمر أخذت بذات الحديث ” عندما بعثت ابن أخيها سالم بن عبد الله بن عمر ليرضع من أخت السيدة عائشة حتى يدخل عليها ، فرضع ثلاث مرات و تعبت و لم يتم خمس رضعات فلم تدخله السيدة عائشة ” .
و في حوار أخير له مع الوطني اليوم قبل ارتداده على عقبيه ، قال ملخصا الموقف : ” إن ما قلته و أقوله هنا فتوى أسأل عنها أمام الله ، و كنت أعني كل كلمة نطقت بها ، فأنا استاذ و رئيس قسم الحديث بكلية أصول الدين ، أى أنني عالم من علماء الدين و كلامي هو فتوى شرعية ، و من حقي كعالم دين أن أعلن رأيي في أي قضية بدون موافقة مجمع البحوث الإسلامية ، فأنا أرفض أي قيد على حرية الرأي ، و عدم الإقتناع عقلاً بحديث الرضاع لا يمنع ثبوته فهو حديث صحيح ، و الاعتراض عليه هو اعتراض على الرسول ( ص ) و تشكيك في السنة النبوية ، فرأت عائشة رضي الله عنها أن الخلوة ضرورة لتحصيل العلم و الفتوى ، و رأت أمهات المؤمنين أن الفتوى ليست ضرورية ، و أنا أرى رأي عائشة . . و الحكمة من طرح هذه القضايا في وسائل الإعلام هو فتح شهية الناس للبحث و الدراسة بحيث يرجع الناس إلى العلماء لفهم التفاصيل ” .
كما تابعت الدكتور عزت عطية ، فقد تابعت أيضاً الردود الفقهية التي سيقت ضد فتواه ، و التي استندت بدورها إلى شواهد من الحديث الشريف ، فقد حشدوا في مواجهتة مجموعة أحاديث منها على سبيل المثال
• عن أم سلمة قالت : قال رسول الله ( ص ) : لا يحرم من الرضاعة إلا ما فتق الأمعاء من الثدي و كان قبل الفطام / رواه الترمذي حديث صحيح حسن ؛ أي لابد من وجود اللبن في الثدي المرضع كي تكون رضاعة محرمة و بشرط تمامها في الحولين .
• عن ابن مسعود : ” لا رضاع إلا ما شد العظم و أنبت اللحم ”
• و قول النبي : ” إنما الرضاعة من المجاعة ” ، أي أن الرضاعة التي تحرم هي ما كانت في فترة الطفولة حتى يكون اللبن سبباً في بناء لحم الطفل ، فتكون المرضعة قد أنبتت من لبنها لحم الطفل كالأم عندما نبت من رحمها ، فتكون المرضعة أماً بهذا المعنى .
• عن ابن عباس مرفوعاً : لا رضاع إلا في الحولين أى في السنتين الأولين/ رواه الدار قطني 4 / 1774 ، و نصب الراية 3 / 218 و كنز العمال 15678 .
و رأت مجموع الردود أن هذا هو ما نص عليه القرآن و أوضحته السنة و عمل بها كل الصحابة ماعدا عائشة وحدها و ما ورد عنها .و تأكيداً لعدم ترتب التحريم على رضاع الكبير ، أن رجلاً جاء إلى عبد الله بن عمر يسأله عن رضاع الكبير فقال عبد الله بن عمر : جاء رجل إلى عمر بن الخطاب فقال : إني كانت لي وليدة ( أمة / جارية ) و كنت أطؤها ، فعمدت إمرأتي إليها فأرضعتها ، فدخلت عليها فقالت : دونك ، فقد و الله أرضعتها ، فقال عمر : أوجعها و أت جاريتك فإنما الرضاعة رضاعة الصغير .
و يردون فتوى عطية بالقول إنه لو جاز شرعاً رضاع الكبير لضاعت مصالح الناس ، و لفسدت العلاقات ، فهذه امرأة ترضع ضرتها لتحرمها على زوجها و تلك ترضع خطيبة ابنتها لكي لا يتزوجها ، و لم يقل بثبوت حرمة النكاح لرضاع الكبير إلا الظاهرية فقط . و كان الدكتور عطية قد استبق هذا الرد بتأكيده للوطني اليوم ” أن إرضاع الكبير لا يحرم النكاح أو الزواج ، أما إرضاع الصغير فهو الذي يحرم النكاح ” أي أن الرضاع المحرم حسبما أخبر النبي هو ما فتق الأمعاء و أشبع الجوع ، و ليس مجرد مص الثدي ، لأن إرضاع الكبير يعني مص الثدي سواء كانت المرأة ذات ولد ترضعه أو لم تكن ذات ولد و لا لبن .
و في حادثة سالم مولى أبي حذيفة قال القاضي عياض : ” و لعل سهلة حلبت لبنها فشربه من غير أن يمس ثديها و لا التقت بشرتاهما ” ، و من بين الرواه الذين لم يستسيغوا التقام الثدي ، ابن سعد الذي لم يبدأ روايته بافتراض ( لعل ) مثل القاضي عياض بل قال مباشرة : ” كانت سهلة تحلب له في مسعط / إناء / قدررضعه فيشربه سالم كل يوم حتى مضت خمسة أيام ، فكان بعد ذلك يدخل عليها و هي حاسر، رخصة من رسول الله / انظر شرح الزرقاني على الموطأ ج 3 ص 306 ، و هو ما استند إليه الذين ردوا فتوى الدكتور عطية بضرورة التقام الثدي بالشفتين ، و قد احتاط الدكتور عطية لمثل هذا الرد سلفاً ، فقال بالوطني اليوم : ” إن الوسائل الموصلة كالحلب في إناء ، فهو لأن بعض الناس تتحرج من أمر الرسول ، و الشرع ليس بذوق الناس ، و الدين ليس خاضعاً لرغبات الناس ، و إجازة العلماء الحلب في إناء نوع من الترفع و الادعاء احتياط في تفسير الحديث ، و لم يرد في الروايات ” .
و من ردوا عليه تعميمه للحالة على كل المسلمات بحسبانهم أن حالة سهلة بنت سهيل كانت حالة خاصة و رخصة خاصة بسالم وحده و سيدته سهلة بنت سهيل ؛ فقد رد عليها الدكتور عطية بفعل السيدة عائشة و قريباتها التي عممت الرخصة بما فعلت .
اللافت للنظر في هذه المعركة الفقهية بطولها ، ان الدكتور عزت عطية و أياً ممن ردوا عليه ، لم يشيروا إلى الأصل القرآني للموضوع كله ، و التي قام عليها عدد الرضعات للكبير ، و هو ما يرويه الإمام السيوطي في ( الإتقان في علوم القرآن ) ، قالت عائشة : ” كان فيما أنزل عشر رضعات معلومات ، فنسخن بخمس معلومات ، فتوفى رسول الله ( ص ) و هي ما يقرأ في القرآن ” ، و يؤكد القول ذاته ابن الجوزي في كتابه ( نواسخ القرآن ) مضيفاً قول عائشة : ” فلما اشتكى رسول الله تشاغلنا بأمره ، فأكلتها ربيبة لنا ، أى الشاة ” . و قد أورده صحيح مسلم 2 / 1075 / 1452 و الترمذي في سننه 3 / 456 و الصنعاني في مصنفه 7 / 467 و 470 ، و يعقب النووي على قولها : ” فتوفى رسول الله ( ص ) و هي فيما يقرأ بالقرآن ، معناه أن النسخ بخمس رضعات تأخر إنزاله جداً حتى أنه توفى ( ص ) و بعض الناس يقرأ خمس رضعات و يجعلها قرآناً متلوا لكونه لم يبلغه النسخ لقرب عهده ، فلما بلغهم النسخ بعد ذلك رجعوا عن ذلك و أجمعوا على أن هذا لا يتلى ، و على هذا فلا يشكل أن يكون الداجن ( أى الشاة ) – لو ثبت – قد أكل تلك الصحيفة ، لأنها من القرآن المنسوخ تلاوته ” .
و يرويها مسند أحمد 6 / 296 و ابن حزم في المحلى 11 / 235 و ابن ماجه في سننه 1 / 625 و الجامع لأحكام القرآن 14 / 113 كالآتي : ” عن عائشة : نزلت آية الرجم و رضاع الكبير عشر ، و كانت في صحيفة تحت سريري ، فلما مات رسول الله ( ص ) تشاغلنا بموته ، فدخل داجن ( شاه أو عنز ) و أكلها ” .
و قد حمل بعض الفقهاء ذلك النسخ على انه مما نسخت تلاوته و حكمه معاً فابطلوه ، لكن بعض الشافعية و الحنابلة حملوه على ما نسخت تلاوته دون حكمه مثل مثل الرجم ، فآية الرجم التي أكلتها الشاة مع آية رضاع الكبير غير موجودة بالقرآن فتم احتسابها مما نسخت تلاوته مع بقاء العمل بحكمها ، و لترافقها في الفقد من المصحف بأكل الشاة لها مع آية رضاع الكبير ، فإن العمل بحكم الرجم رغم عدم وجود الآية ، يلزم عنه العمل بحكم آية رضاع الكبير التي فقدت معها بدورها .
و الظاهر من حديث عائشة أن النسخ كان بعد وفاة النبي و لكنه أمر غير مقبول بإجماع ، لنص القرآن على أن الله لا ينسخ آية من آياته إلا و يأتي بأحسن منها أو مثلها : ” و ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها ” . لذلك ترك العمل بهذا الحديث مالك بن أنس و أحمد بن حنبل و أبو ثور و غيرهم ( للمزيد انظر مشعل الآثار 3 / 6 : 8 و أصول السرخسي 2 / 78 و فتح المنان 223 : 230 و الفقه على المذاهب الأربعة 4 / 258 : 260 ) .
ربما لو كان مسموحاً للدكتور عطية بالكلام الآن و هو خاضع لمجلس تأديب ، لربما رد عن نفسه الكثير ، لرد على قولهم بكون حديث رضاع الكبير حالة خاصة و رخصه لسالم و سهلة تحديداً دون غيرهم ، بكيف تكون حالة خاصة و فيها نص قرآني ، و ليس نصاً واحداً بل نص أول تم نسخه بنص تالي يجعل رضاع الكبير خمس مشبعات بدلاً من عشر ، و هو يشير إلى مدى اهتمام القرآن بالأمر ، و أن مجرد وروده عاماً مجرداً ” ورضاع الكبير عشراً ” يعني عموميته لا خصوصيته ، و إلا لخصص كما خصص لزيدبن حارثة ” فلما قضى زيد منها وطرا زوجناكها ” . وحتى مع تخصيص الآيات فإن الحكم كان عاما وتم إلغاء التبنى من الإسلام .
ربما لو كان مسموحاً له بالقول لقال إنه فيما أفتى ليس مجتهداً بل متبعاً ، و اتباعه هو لخير متبوع ، فهو إنما قال بما قالت و فعلت علناً السيدة عائشة التي هي مصدر نصف دين المسلمين . ربما قال أيضاً : إن الإسلام و نبيه و قرآنه و حديثه لم يأتو ليحلوا لصحابي مشكلة خاصة على انفراد ، أو لسألهم الدكتور عطية : فماذا عن قاعدة : العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ؟ لماذا تصبح هذه الحالة خاصة بسالم و سهلة بنت سهيل دون بقية المسلمين مادامت العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ؟ فإذا خرجتم على القاعدة فلتعلنوا ذلك واضحاً لأنها قاعدة دونها الكفر عند الفقهاء ، و حتى يتمكن غيركم من الخروج عليها في شئون أخرى تحكمون بها رقابنا ، دون أن تعرضونا للتكفير ؟ أم أنكم تنكرون معلوماً من الدين بالضرورة ؟ وهل من بين المعلوم بالضرورة من هو أقوى سنداً و شرعية من أمنا عائشة و هى من قال ، و هى من فهم ، و هى من وعى ، و هي من عاش الحادثة ، و هى من نأخذ عنها نصف إسلامنا ، و هي من طبق الحديث و الآيات المفقودة ، وهى من عمل بها في تفاصيل عديدة رصدتها لنا كتب السير و الأخبار الإسلامية .
ربما لو كان مسموحاً لعطية بالقول لسألهم : لماذا أخذت السيدة حفصة بنت عمر بذات الحديث ، و أرسلت ابن أخيها سالم بن عبد الله بن عمر ليرضع من أخت السيدة عائشة حتى يدخل عليها ، فرضع ثلاث مرات ، لكنها تعبت و لم تتمكن من المواصلة فرفضت السيدة عائشة دخوله عليها ؟
ربما رد عطية على من يقولون ( بربما )حلبت سهيلة لبنها لسالم في مسعط ، أن يثبتوا أن سهلة آنذاك كانت منجبة حديثاً لطفل في حال رضاعة حتى يتوفر لبن يصب في مسعط ، و هو ما لم يرد بالرواية و لا بالإشارة .
كما لم ترد أي إشارة لأي حادثة رضاع كبير توضح ماذا كانت المرضع ترضع طفلاً من الأصل و أن لديها وفرة من اللبن ، فالهدف إذن كان هو تماس الشفتين و الحلمة للمص فقط ، لكن المسألة هنا ستكون ما هى المدة اللازمة للإشباع و من سيشبع بالضبط ؟ و طبيعة هذا الشبع ، ربما تفيدنا حادثة سالم الآخر بن أخي السيدة حفصة الذي ذهب يرضع من أخت السيدة عائشة ، فرضع منها ثلاث مرات و تعبت فلم يتمكن من استكمال الشرط الشرعي بخمس رضعات ، فيكون التعب هنا هو علامة الشبع المقصود ، فقد تعبت من إشباع مرات ثلاث و لم تستكمل الإشباع خمساً ، لذلك رفضت السيدة عائشة أن تلقاه .
لذلك فرق الحديث بين الرضاعة التي تحرم و هي من المجاعة أي بشرب اللبن الذي يفتق الأمعاء و قبل الفطام في الحولين الأولين ، و بين رضاعة الكبير التي ليس فيها شرب حليب حقيقي لذلك لا تؤدي إلى التحريم و لا تمنع الزواج لأنه لا يشرب حليباً يبني جسده فيصبح ولداً للمرضعه . و لو أراد النبي بالرضاع حلب اللبن في مسعط لقاله لسهلة بنت سهيلة بوضوح ، و لما استغربت هي و سألته : كيف أرضعه و هو رجل كبير ؟ ! ! ، و هو استدراك كان كفيلاً باستدراك نبوي مماثل يشير إلى الصب في مسعط لأن سالم رجل كبير ، لكنه قال لها بتكرار آمر إذهبي فارضعيه ، و في رواية ( فرَضّعيه ) بفتح الراء و بتشديد الضاد . لتأكيد مقصده .
إذن و بوضوح كان الغرض هو تماس الرجل و المرأة تماساً شديداً يصل إلى حد مص الثدي ، لإزالة غربة البعاد و التخفي ، و قد لوحظ أنه في المصايف في بلادنا لا تلفت المرأة بالمايوه نظر الرجال لأنها أصبحت شيئاً اعتيادياً ، ناهيك عن وضعها في دول العالم الأخرى ، و من ثم تصبح المرأة بعد رضاع الكبير هي و الرجل كالشقيقين خاصة أنه أمر يتم عن معرفة من المحيط به و في العلن . أعتقد أن هذا ما راود خاطر الدكتور عطية و هو يلقي بفتواه كحجر ثقيل في مياهنا العفنة الآسنة ، عن إيمان و يقين أن الله سيلقي بألطافه السماوية عند طاعة النبي برضاع الكبير ، مما يحول الموظفين في بلادنا إلى أشقاء و شقيقات يعيشون حياة طبيعية في مجتمع متآلف متراحم يأمنون بعضهم بعضا دون خجل من الأخوة في العرفان بالله . رغم أنهن جميعاً كن سافرات قبل صحوتنا الإسلامية المباركة ، و كن يحظين باحترام و تقدير المجتمع كله دونما انتشار للرذيلة المستترة في نخاع المجتمع الحالي .
و لم يحتجن أيامها فتوى لخلع الحجاب ، بل كان خلع الحجاب إحدى علامات العزة الوطنية بالحرية و قرار اجتماعي عام بإعادة الاعتبار إلى نصف الأمة المشلول ، فكان علماً من معالم و مكاسب ثورة 1919 بل كان أهم هذه المكاسب .
إن ما أكتبه هنا لن يعجب الدكتور عزت عطية نفسه ، لكنى أطالبه فقط بأن يسمح لغيره بحرية الرأي و القول و هي الحرية التي أصر هو عليها و أعلنها ، و رفض بموجبها الرجوع بفتواه إلى مجمع البحوث الأزهري . و عندما أقدم دفوعي هنا أقدمها لوجه الحق و ليس لوجه شخص ، أقدمها لأني سأبني عليها الآن قولاً آخر هو الهدف و الغرض و المرتجى النهائي لما أكتب هنا .
الدكتور عزت عطية لا شك عميق الإيمان ، و أيضاً هو رجل مخلص لبني ملته يريد لهم الخير و التخفيف عنهم بعض أثقال وضعها على الناس زملاء له عمموا الحجاب و رفضوا تعميم رضاع الكبير ، فهم كل يوم في شأن ! ! يرخصون و يمنعون و يحللون بالمزاج ، لذلك لجأ الرجل إلى رضاع الكبير و اعتبره حالة عامة لا خاصة ، كما اعتبروا الحجاب حالة عامة رغم كونه كان مخصوصاً بأمهات المؤمنين وحدهم .
الرجل أعلن ما يعلم في مقدسه بغض النظر عمن سيرضى أو عمن سيغضب ، و بغض النظر عن ذائقتنا الأخلاقية اليوم لشئون الجنس ، لأنه على يقين من سلامة النتائج مادامت تنبني على مقدمات من حديث و قرآن و تجارب سابقة . و رغم ذلك تعرض الرجل لهبة من زملائه تندد به ، خاصة أن آية رضاع الكبير و آية رجم الزاني التي أكلتهما الشاه غير موجودتين بالقرآن العثماني ، و أن مصدر الروايتين السيدة عائشة ، و هى من أصر على عدم نسخ آية رضاع الكبير خمساً ، و عملت بها و بالحديث التي هي أيضاً من رواه . و يعلم جميع المهتمين بهذه المسألة أن غلاة الشيعة قد استثمروا ذلك للطعن في السيدة عائشة ، بكونها اخترعت الأمر اختراعاً ، بعد أن مات النبي و عمرها ثمان عشر عاماً مع منعها من الزواج بغيره بعد موته ، و قد وجدت في ذلك حلاً لمشكلتها الجنسية فهي إنسان كبقية البشر ، و هو قول مرذول مردود لأنه لم يثبت أنها أرضعت بنفسها أحداً في أي خبر في مكتبتنا التراثية الكبيرة . وسبق أن برأها القرآن الكريم من اتهامها بالفاحشة مع صفوان بن المعطل فى غزوة خيبر، فيما عرف بحديث الإفك ،واتهامها بذلك هو تزيد وإفك جديد .
و على الجانب السني لخص صاحب المنار الموقف من أحاديث السيدة عائشة بهذا الشأن في قوله : ” لو صح أن ذلك قرآناً لما بقى علمه خاصاً بعائشة ، بل كانت الروايات تكثر فيه ، و يعمل به جماهير الناس ، و يحكم به الخلفاء الراشدون ، و كل ذلك لم يكن ، . . و إن رد هذه الرواية عن عائشة لأهون من قبولها ، مع عدم عمل جمهور السلف و الخلف بها / تفسير المنار 4 / 472 ” .
خطأ الدكتورعزت هو التباس الشأن لديه في التحريم من عدمه لرضاع الكبير ، فلم يعد للإرضاع حكمه إذا كان لا يحرم الزواج ، و بينما هو يستند إلى السيدة عائشة ، فإن السيدة عائشة كانت تلجأ لإباحة الخلوة برضاع الكبير ، باعتبار أن هذا الأرضاع يحرم و يجعل من يلقاها ذي محرم .
أما الخطأ الأكبرفهوذلك النوع من الإيمان الذي يمنع أى ضوء آخر من الوصول للإنسان ، فيرى المعجزات قابلة للتحقيق ، و ان ما كان يحدث في مجتمع و زمان و مكان منذ ألف و أربعمائة سنة يمكن أن يحدث اليوم . فهو رجل نصي شديد النصية ، لذلك وصفه المشايخ المخالفون له بالظاهرية ، فهو يرى أن حفل مص عالمي للمسلمين كفيل بحل المشكلة الجنسية المستفحلة في بلادنا ، الرجل نصي إلى حد أنه في الحوار مع الوطني اليوم اعتبر تسجيل حالة الزنا بالفيديو لا تثبت الزنى ، فلابد من أربعة شهود من البنى آدمين يرون رؤى العين عضو الرجل كالميل وهو يدخل ويخرج في مكحلة المرأة . نصية الرجل و تصوره أن النص الديني يملك قدرات سحرية و يمكنه أن يكون فاعلاً في حياتنا اليوم هو تصور سحري يكفي بموجبه تغيير الواقع كما نريد ببعض الطقوس و التلاوات والأفعال . و هو في ذلك ليس فريداً فالمسلمون و مشايخهم يعتقدون حتى اليوم بأن صلاة الغيث تنزل المطر ، حتى اليوم لا يعترفون بكل التقدم الفلكي الهائل و يصومون على تفرق بين بلدانهم لإصرارهم على رؤية الهلال بالعين المجردة ، حتى اليوم يصرون على أن الطلاق يقع لفظاً .
ان الدكتور يتحدث عن رضاع الكبير في مجتمع كانت نساءه لا تتسرول و لا تعرف الأزرار لتداري صدرها فتسير به مفتوحاً على وجوه الرجال ، مجتمع كان ينكح الصغيرة دون حرج فقد تزوج النبي عائشة و عمرها تسع سنوات و عمره اثنين و خمسين ، بل كانوا يخطبون البنت في بطن أمها . مجتمع كان يتحدث عن النكاح ( و هي كلمة تعني الفعل الجنسي الصريح بإطلاقه ) دون جزع ، مجتمع يفاخذ الرضيعة ، مجتمع يتحدث فيه النساء و الرجال عن النكاح بألوانه و أشكاله دون ملامة ، مجتمع يحوز الرجل فيه على أربع زوجات و ما لا عدد له من الإماء و يضع الرجم عقوبة للزنى ، و لا يضع عقوبة للجنس المثلي أو إتيان دبر المرأة أو معاشرة الحيوان ، مجتمع قوانينه ثأرية و ليست إصلاحية فيقطع و يرجم و يجز الرقاب بشكل اعتيادي ، مجتمع سادة و عبيد ، حتى سادته درجات و بيوته أصناف باختصار كان مجتمعاً مختلفاً بالكلية حياة و عادات و تقاليد و نظم اجتماعية عن مجتمعنا اليوم .
إن خطأ الدكتور الحقيقي إذن هو اعتقاده في فكره صلاحية أي شئ إسلامي لكل زمان و مكان . و أن ما كان يؤتى بحلول زمن الصحابة يمكن بتكراره أن يؤدي لذات النتيجة اعتماداً على مبدأ السحر التشاكلي حيث ينتج الفعل الشبيه شبيهه المراد و المطلوب ، غير ملتفت بالمرة إلى ما حدث في الدنيا منذ كانت عائشة تأخذ برضاع الكبير . الرجل يتصور أيضاً أن كل الحلول لابد أن تكون من الإسلام و لا يتصور حلولاً مدنية أبداً ، لذلك يتطوع مشكوراً للبحث عن هذه الحلول في خفايا ديننا ليقدمها لنا في شكل فتاوي .
لو كان صالحاً لكل زمان و مكان فأين هم عبيدنا ؟ و أين هن جوارينا و إمائنا ؟ و أين هن السبايا ؟ أين هي حقوق العرب الفاتحين من جزية و فيئ و خراج و أنتم تعلمون أننا و بلادنا معنا ، وقف على العرب الفاتحين بالقرار العمري الأشهر، أم أن ذلك ليس من شرعنا ؟ لقد ظل الرق مشروعاً منذ زمن النبي و الصحابة الذين ماتوا جميعاً و عندهم عبيدهم و ملك يمينهم حتى 1964 عندما اضطرت السعودية لإعلان إلغائه تحت الضغط الأممي .
إذا كان صالحاً لكل زمان و مكان فإن فتوى الدكتور عطية تكون أوفق لو طلبت حل مشاكلنا الجنسية بإعادة أسواق العبيد و الجواري الحسان مرة أخرى . و ما أقوله هنا هو إسلام في إسلام و إيمان 100 % ، لا يستطيع أن يعترض عليه لا عطية و لا المفتي و لا شيخ الأزهر ، وليردونا بالبرهان إن استطاعوا.
على المسلمين أن يعلموا و هم يتمسكون بقاعدة الصلاحية التامة لكل زمان و مكان أنها تخلق إشكالاً عصي الحل بالمرة في تعاملهم مع زماننا و عصرنا ، في كل المجالات ، سياسة ، اقتصاد ، علوم ، قيم ، أسلوب حياة ، قانون ، علاقات اجتماعية و دولية . . إلخ . و أن الكثير مما نعتقده صالحاً لكل مكان و زمان يجب تركه لمكانه و زمانه .
إن في كل دين ما هو صالح لزمنه فقط ، و فيه ربما ما يصلح لأزمنة أخرى ، و فيه ما يصلح لمكانه فقط و مجتمعه وحده ، و فيه ربما ما يصلح لمجتمعات و أمكنة أخرى ، ولدى كل دين ما يخجل منه صاحبه اليوم و يستشعر العار ، فقط عندما يطلب له الصلاحية لكل زمان و مكان ، لكنه أبداً لن يستشعر هذا إذا ما ترك من دينه ما كان مرتبطاً بزمانه و مكانه لزمانه و مكانه ، ففي التوراة تجد خطابات جنسية صارخة و أحداث أكثر صراخاً تموج بصهيل الجنس ( بتعبير التوراة / العهد القديم ) و تكفي إطلالة على نشيد الإنشاد الذي لسليمان ، حتى تشعر بنشوة الإستماع إلى شعر أبي نواس الفاضح ، و النبي إبراهيم تزوج أخته سارة ، و النبي موسى تزوج عمته يوكابد ، و النبي لوط جامع إبنتيه فأنجب بني عمون و بني موآب ، و ابن النبي سليمان اغتصب أخته ثامارا ، و النبي داود جامع امرأته رئيس جنده أوريا الحيثي و أرسله للقتال مع مؤامرة بحيث يتم تركه للقتل في المعركة ليفوز بالنعجة المئة بعد أن أمتلك تسع و تسعين نعجة . و النبي سليمان كانت له سبعمائة جارية و ثلاثمائة زوجة ناهيك عن مغامراته مع ملكة سبأ ، و بوعز نكح زوجة ابنه و حملت منه نسلاً سيأتي منه المسيح من بعد ، وهو المسيح الذي كان يعاشر العشارين و الخطاة والزناة ومن معجزاته تحويل جرار الماء إلى خمر لذة للشاربين .
إن الشعور بالعار سيتولد عندما نصر على أن بول الجمل أو الناقة فيه شفاء للناس ، في زمن أصبح يعلم فيه الطفل في مرحلة الإبتدائية أن هذا البول هو شكمان / أو كزست / الإنسان ، هو مخرج السموم التي يطرحها الجسم خارجه ، الشعور بالعار سيتولد عندما يفتي مفتي الجمهورية بأن بول الرسول علاج للأسقام ، و أن نخامته و بصاقه و عرقه يتداوى به ، و قد تتولد الحيرة لدى المسلم و هو يفاضل في العلاج بين بول الجمل و بول الرسول .
إن ما صدر من المفتي كان خبراً و ليس فتوى حتى يتراجع بدوره عنها و يسحب كتابه من الأسواق ، فليس بالإمكان الحصول على هذا البول لتنفيذ الفتوى لو كانت فتوى ، كان خبراً لا يخلو منه كتاب من كتب السير و الأخبار و الحديث الإسلامية ، فكان صحابة النبي يتقاتلون على بصاقه و نخامته صلى الله عليه و سلم ليدلكوا بها وجوههم ، و جلدهم ، ذلك كان زمانهم و هذا كان اعتقادهم ، و لو كان بول النبي غير بول بقية الناس لما تطهر النبي منه ،و لو كان النبي يعلم ذلك عن بوله يقيناً لما بخل عن توزيع بوله على المسلمين الذين فدوه بالروح و بالدم ، و لجاءت الأخبار تفيد بذلك ، لكن حادثة البول كانت حادثة واحدة حدثت كطرفة تاريخية ، فقد قام الرسول ليلاً لحاجته فبال في إناء بجواره ، فقامت أم أيمن ( حاضنته ) عطشى فشربت البول و قد حسبته ماء ، فلما أصبح الرسول و علم قال لها : ” صحة يا أم أيمن ، لا يجفر بطنك بعدها أبداً ” . ربما نصدق الحدث و ربما نصدق أن الرسول قال لها على سبيل المزاح و إذاهاباً لروعها ” صحة يا أم أيمن ” ، لكنا أبداً لا نستطيع أن نقبل استطراد الحديث ” لا يجفر بطنك أبداً ” لأنه لو كان ذلك حقاً ، لظل بول الرسول محفوظاً حتى اليوم نزيده كلما نقص لتتداوى به الأمة أبد الآبدين ، و لكان إخفاء هذا الدواء الشافي عن الصحابة رغم علم النبي به نوع من البخل الذي لا يليق بالنبي الكريم ، لذلك و لا شك أن تلك كانت إضافة تقديسية من كاتب الحديث أو راويه مبالغة في تكريم الرسول إلى حد إهانته ، إنها مديح البداوة ، ألم يقل البدوي في شعره ماداحاً : أنت كالتيس في قراع الخطوب ، و كالكلب في الوفاء .
أن مثل هذا الحديث اليوم ، لهو حديث الأمم عندما تشيخ و يصيبها الخرف ، هو براز ونخام وبصاق وبول التخلف العقلي و الكساح الفكري و العته في الفهم و الضلال في الرأي و الخراب في الديار و الفساد في الضمائر .
إن ما صدر عن الدكتور عزت عطية و عن الدكتور على جمعة قد انبنى جميعه على أحداث حدثت زمن الدعوة وثقها تراثنا أيما توثيق ، فقط كان الخطأ في النظارة التي يلبسها أهل الدين في بلادنا . لكن المفزع حقاً لكل مسلم هو ما ترتب على ذلك من أحداث انتهت بتراجع كليهما عما قال و إخضاع الدكتور عزت عطية لمحاكمة تأديبية بعد إيقافه عن أداء عمله .
هنا الجريمة الحقيقية ، جريمة ارتكبها المجتمع علناً و هو راض قرير العين ، جريمة كذب و جريمة محاكمة باطلة خوف العار دون أن يخافوا ربهم و هم يظلمون ،و جريمة إنكار معلوم من الدين بالضرورة علناً بموافقة كل المسلمين .
أقرأوا معي بيان المجلس الأعلى للأزهر و هو أعلى جهة إدارية تابعة لمشيخة الأزهر في مصر ، بخصوص فتوى الدكتور عطية ، إذ يقول البيان : ” إن ما جاء على لسان الدكتور عزت عطية يتنافى مع مبادئ الدين الإسلامي الحنيف ، و يخالف مبادئ التربية و الأخلاق ، و يسئ إلى الأزهر كمؤسسة إسلامية مرموقة ” . أيها الناس : إن الأزهر ينكر معلوماً من الدين بالضرورة علناً و دون أن يستحي أو بخجل ! !
كان على البيان أن يميز بين مرجعية الفتوى من أحداث زمن الدعوة و بين الفتوى نفسها ليصفها بما يشاء من سخائم لكن البيان شمل كل قول عطية ، و هو إنكار علني لمعلوم من ديننا بالضرورة ، ضرورة اتفقت عليها صحاح المصادر جميعاً .
لذلك تجد فرقاً واضحاً بين هذا البيان ،و بين البيان الذي كتبه عطية يعلن تراجعه عن فتواه ، دون أن يتراجع لحظة عن إعلان مصادره ، فيقول : ” إن ما أثير من كلام حول موضوع إرضاع الكبير ، و ما صرحت به إنما كان نقلاً عن بعض الأئمة مثل ابن حزم و ابن تيمية و ابن القيم و الشوكانى و أمين خطاب و ما استخلصته من كلام بن حجر ، و مع هذا فالرأي عندي أن الرضاعة في الصغر التي يثبت بها التحريم كما قال الأئمة الأربعة ، و أن موضوع إرضاع الكبير كان واقعة خاصة لضرورة ، و ما أفتيت به كان مجرد اجتهاد . . و بناء على ما تدارسته مع إخواني العلماء ، فأنا أعتذر عما بدر مني قبل ذلك ، و أرجع عن هذا الرأي الذي يخالف الجمهور ” .
و كيف لا يتراجع الرجل و هو يرى خمسين عضواً إخوانياً معظمهم أزاهرة بمجلس الشعب المصري و هم يعربون عن قلقهم من انتشار فتوى الدكتور عطية إعلامياً ، كيف لا يتراجع و هو يرى زميله الأزهري رئيس مجمع البحوث الأسبق و العضو الإخواني ( السيد عسكر ) يعلن باسمهم إخوان وأزاهرة أن فتوى الدكتور عطية خروج على إجماع علماء الأمة بل أنها تسهم في نشر الرذيلة بالمجتمع ، لسبب مبهر ” لأنه ليس من المعقول أن نتحدث عن رضاع الكبير في مجتمعنا الحديث ” . ، كيف لا يتراجع و زميله عضو مجلس الشعب الشيخ ماهر عقل يعلن ان كشف المرأة ثديها لغير زوجها يعتبر كشفاً لعورة . كيف لا يتراجع و هو يرى كل الخطائين يرمونه بأحجار آثامهم ، كيف لا يتراجع و هو يرى سكاكين الفتاوي الأخرى تطارد فتواه ، و هم الزملاء الذين حبذوا تراجعه و حمدوه له ، فهذا الدكتور عبد المعطي البيومي يرى رجوعه كافياً ( لا تعلم هل كان مطلوباً قص رقبته مثلاً ! ؟ ) و ان الرجوع للحق فضيلة ، و واجبنا أن نتعامل بالرحمة و الرفق معه ، و الدكتوره سعاد صالح قالت : ” إن الخطأ في الفتوى شئ وارد ، و قد أخطأت في بعض الفتاوي و تراجعت عنها و ليس في هذا عيب ، لأن الخطأ الحقيقي هو الإصرار على الخطأ ، أما الرجوع و الإعتذار كما فعل الدكتور عزت فهذا أمر محمود ” .
لا تفهم هنا هل ينكرون هؤلاء السادة الحديث الذي استند إليه عطية ؟ إذن ليعلنوا هذا بوضوح ، فإن كانوا لا ينكرون الحديث فلماذا يعاقبون عطية ؟ و لماذا يمتدحون رجوعه للحق ، و ما هو هذا الحق بالضبط ؟ نريد أن نفهم الحق المقصود هنا ، إن العقوبة تتضح دوافعها من تعقيب وزير الأوقاف الدكتور حمدي زقزوق على مفتي الجمهورية و بول الرسول إذ يقول : ” إن مثل هذه الفتوى و إن صحت لا يجوز ذكرها أو ترديدها ” ؟ إنه مجرد الذكر و الترديد إذن ؟ إنها الطرمخة على المسلمين عن قصد مبيت من حماة الدين الرسميين وغير الرسميين حتى لا يعلموا من دينهم إلا المسموح به فقط .
و يتابع زقزوق قائلاً : ” ليس كل ما هو موجود في الكتب التراثية القديمة صحيح و مسلم به ، و إنما لابد أن نعمل عقولنا فيما نقرأ . فقد نجد في هذه الكتب أشياء تخالف العقل الإنساني ، فلا يجب أن نقولها أو يذكرها أى داعية ، لأنها تسئ للرسول ( ص ) . . ” . و هو ما يعني أن كثير من أحاديث الرسول أخفاها الفقهاء عن غالبية المسلمين و عامتهم عن قصد مبيت ، بل و ينصح زقزوق مشايخنا بذلك الخداع للمسلمين علناً ، و يستطرد يقول في بيان له بهذا الخصوص : ” إن فوضى الفتاوي و عدم انسجامها مع العقل و الفطرة الإنسانية أكثر خطراً على الإسلام من خصومه ” ، ووصف تلك الفتاوى بالإنحدار عن الفكر الديني ، و طلب بفكر يسمو بالمسلمين و لا يجرهم إلى التخلف و الجهل و منافاة قواعد الذوق العام ، و كان زقزوق قد خص المفتي بهجومه معتبراً فتواه إساءة واضحة للنبي صاحب الدعوة الذي كان نقياً في كل شئ و لا يقبل مطلقاً بهذه التخاريف . و تسائل : هل انتهت كل المشاكل في العالم الإسلامي و لم يعد غير فتاوي التبرك بشرب بول الرسول و إرضاع الكبير ؟
إن قسوة الدكتور زقزوق قد جاءت في حينها و هي مطلوبة بلا شك ، و حملته على المفتى على جمعة بالذات لها مبررها الواضح الفصيح ، فربما من كان يستحق العقوبة هو فضيلة المفتي بشكل خاص ، أولاً لإصراره على أن قوله فتوى ، و أنه لم يتراجع عن هذه الفتوى بل تمسك بها و دافع عنها وظهر على التليفزيون باكياً منتحباً في مشهد درامي زاد موقفه سوءاً ، و هو يؤكد ما جاء في كتابه : ” أن نساء النبي و صحابته الكرام كانوا يتبركون ببوله و فضلاته ، يروون من خلالها عطشهم و يداوون أوجاعهم و أسقامهم ” ، فهذا قول لم تقل به كتبنا التراثية ، فحادثة البول كانت حادثة واحدة مع حاضنة النبي أم أيمن ، و لم نجد غير ذلك مما يقول عن تبرك الصحابة ببوله و فضلاته يروون من خلالها عطشهم ، كما لو كان النبي يقف سبيلاً و الصحابة أمامه طابور يروون عطشهم ، إنها صورة غير جميلة بالمرة رسمها لنا خيال فضيلة المفتي وحده . و ما يجعل هذا الخيال الجامح وزراً كبيراً أنه ليس رجل دين عادي بل هو مفتي الديار المصرية بجلال قدرها عند المسلمين .
أما ابتدار الصحابة لبصاقه و نخامته فقد جاء في رواية سهيل بن عمرو مندوب قريش بعد ما رأى مكانة النبي وسط أصحابه في صلح الحديبية . و هو ما لا يتطلب فتوى لأننا لن نستطيع الحصول مثلهم على النخامة و البصاق ، و لا تشغلنا طريقتهم في التعبير عن حبهم لنبيهم و قائدهم ، فلكل زمن ذوقه ، و لكل شعب طريقته في التعبير عن عواطفه ، و تتعدد الطرق بين مختلف شعوب العالم حتى تأخذ أشكالاً غرائبية أحياناً و مضحكة أحياناً أخرى ، في عين غير أهلها . هذه كانت طريقتهم في بلادهم في زمانهم . لا هي فاسدة الذوق و لا هي جميلة المعنى و لا هى مقدسة المشهد ، هي طريقة تعبير تليق ببداوة العربي الذي كان بالأمس أدنى في درجة العيش و التحضر من إنسان الشجر الأول .
هنا نكون قد وصلنا إلى مناقشة مناط الموضوع الذي هو أجدى و أكثر احتراماً لدين المسلمين و لحياة المسلمين و معاشهم اليوم ، و ندخل إليه عبر الصوت الديني المعارض لفتاوي المفتي و عطية .
يلفت النظر بشدة في الاعتراضات التي سيقت ضد تلك الفتاوي تأكيدها على اختلاف مجتمعنا المعاصر عن مجتمع زمن النبوة بالجزيرة ، و عن اللجوء إلى العقل إذا ما تعارض معه النص ، السيد عسكر نيابة عن الإخوان بالمجلس قال : ” ليس من المعقول أن نتحدث عن رضاع الكبير في مجتمعنا الحديث ” ، بل و اللجوء إلى ذائقة الناس و قبولهم أو رفضهم استناداً إلى هذه الذائقة التي تختلف عن زمن النبوة ، فوزير الأوقاف زقزوق يركز على ” منافاة تلك الفتاوي للذوق العام ” و أنه ” لابد أن نعمل عقولنا فيما نقرأ ، فقد نجد في هذه الكتب ما يخالف العقل الإنساني فلا يجب أن يقولها أو يذكرها أى داعية ” بل أن ” مثل هذه الفتوى إن صحت لا يجوز ذكرها أو ترديدها ” احتراماً للذوق العام المعاصر و عقل الإنسان و طرائقة المعاصرة في التفكير ، و هو اعتراف واضح بأن في ديننا ما لم يعد متفقاً مع طرائقنا في التفكير و العيش و الذوق و الأخلاق و معنى الفضيلة و الرذيلة . لكن أن نسمع مثل هذه الردود كردود فقط على موقف بعينه ، بدون تفعيل الموقف من بقية شئون الدين ، حتى نترك ما كان مناسباً لزمانه ، و نعلن إيقاف العمل بأحكامه ، و بدون إعلان التخلي الواضح عن أحكام إسلامية كثيرة لم تعد توافق زماننا و دون إعلان أن في الدين ما هو غير صالح لزماننا ، فسيكون الجرم هنا جرماً في حق المجتمع و الحياة و المسلمين و الدين و المستقبل جميعاً ، لأن ما حدث يظهر للمسلمين كم يخدعهم رجال دينهم و كم يخفون عنهم من شئون دينهم فيظهرون لهم شيئاً و يبطنون شيئاً أخر ، مما يمثل خديعة لا تليق برجال دين ، و يؤدي بالمسلمين إلى الشك في دينهم .
ثم عليهم أن يحددوا معنى الفساد الأخلاقي عندهم ، و أن يجيبوا عن أسئلة إزاء فكرة صلاحية النص لكل زمان و مكان ، و ذلك من قبيل : هل إلغاء تجارة الرقيق و ركوب الجواري فساد أخلاقي ؟ هل إلغاء العقوبات البدنية كالجلد و القطع و الرجم فساد أخلاقي ؟ هل احترام قوانين جنيف و أبسطها و أولها إلغاء سبي النساء في الحروب فساد أخلاقي ؟ هل إلغاء الجزية عن أهل الكتب فساد أخلاقي ؟ هل كفالة حرية الاعتقاد للناس فساد أخلاقي ؟ إن الإخوان المسلمين و الأزاهرة يحدثوننا برطانة غير مفهومة و شعارات لا يؤمنون بها ، فهم يتحدثون عن الشرف و لا يرون في هتك عرض غير المسلمين أي رذيلة ، و يتحدثون عن الحريات و لا يتنازلون عن فقه العبودية و السبي و الجواري ، و يتحدثون عن حقوق الإنسان و لا يعترفون لغيرهم بأي حقوق فغيرهم بلاد كفر و ديار حرب ، و يتحدثون عن المساواة و لا يقتلون مسلماً بذمياً و لا سيداً بعبد و لا رجل بإمرأة فالحر بالحر و العبد بالعبد و الأنثى بالأنثى ، و يتحدثون عن التسامح و يرون غيرهم كافرين يستحقون الذبح أو دفع الجزية عن يد و هم صاغرون . بينما فضائل الدنيا كلها عندهم رذائل من السينما للمسرح للموسيقى لبقية الفنون و السياحة أم الرذائل رغم ما تملك من حلول تامة المعاني لمشاكلنا الاقتصادية .
مطلوب من سادتنا الذين انتقدوا فتاوي المفتي و عطية أن يحددوا لنا أولاً بدقة ما يفهمونه من معاني الأخلاق و العقل و القيم كالعدل و المساواة و حقوق الإنسان و الحريات .
إن الفقه الذي يدرسه أبناؤنا في المدارس و علوم الحديث تؤكد إن الآبق من العبودية كافر ، و بذائقة اليوم نراه رجلاً عظيماً و ثائراً له كل الحقوق في حريته ، و يجب أن تقام له التماثيل في الميادين ، بينما فقهنا يعلم أولادنا و بناتنا أن ” الإباق يحرم شرعاً بالاتفاق ، وهو عيب في العبد ، و قد عده بن حجر الهيتمي و الذهبي من الكبائر ، وردت في النهي عنه أحاديث عدة منها ما رواه بن جرير البجلي عن النبي قال : أيما عبد أبق من مواليه فقد كفر حتى يرجع إليهم ، و اتفق الفقهاء على أن الآبق لا يزال مملوكاً لسيده ، فإذا قتل على وجه يستوجب الدية أو أتلف من بدنه ما يستوجب الأرش ، فديته و أرش الجناية عليه لسيده ” . فقهنا يجعل منا طبقات أسوأ من نظام الطبقات الهندوكية ، فلدينا الأحرار و العبيد و الرجال و النساء و العرب و الموالى و الذميين و العرب و غير العرب و الهاشميين من العرب و غير الهاشميين و القرشيين و غير القرشيين ، و المصيبة أن لكل طبقة من هذه الطبقات حقوقاً و واجبات مقننة تختلف عن بقية الطبقات ، فما هي الحرية و المساواة بالضبط التي يحدثوننا عنها ، و هل ثمة تعريف واضح لها ؟
اللافت للنظر بشدة هو الثناء الذي تلقاه عطية على تراجعه عن فتواه ،و تأكيد الدكتورة سعاد صالح أن الخطأ في الفتوى شئ وارد و أنها هي شخصياً كم أفتت فتاوي خاطئة ثم تراجعت عنها . و مثل الدكتورة سعاد كان المفتى قد شك في موت جذع المخ لإباحة نقل الأعضاء ثم عاد عن فتواه و قال أنها قضية طبية و ليست قضية دينية ، و أفتى بأن الرشوة حلال في الضرورات ثم تراجع عنها و حرمها ، و حرم تحنيط الميت ثم أحله لغير المسلمين كما لو كان غير المسلمين ينتظرون فتواه كبقية رعيته المطيعين الطيبين . و يسمون هذا بالرسوخ في العلم و أنهم هم أهل العلم الراسخون فيه . و بهذا الرسوخ في العلم سبق لجبهة علماء الأزهر أن أفتت بارتداد فرج فودة فقتلته الجماعات الإسلامية ، و هي الجماعات التي اكتشفت بالرسوخ في العلم أنها كانت على خطأ فعادت عن فتاواها القاتلة ، عبر سلسلة مراجعات تصحيحية دينية فقهية منشورة تؤكد بالرسوخ في العلم خطأ الرسوخ الأول ، لكن دون أن يعيدوا لنا فرج فودة برسوخهم الجديد و فتاواهم الجديدة ، و دون أن يعيدوا لمصر شهدائها الأبرار الذين قتلوا على يد هذه الجماعات الإرهابية . و لا أن يعيدوا لمصر اقتصادها الذي دمره الرسوخ في العلم ضد السياحة ، و لا أن يعيدوا الوطن للناس ، و لا أن يعيدوا له و للناس كرامتهم المهدورة بفتاوي الدم .
و إذا كانت الفتوى تشريع ، و إذا كانت دار الفتوى تحمل عنوان دار الفتوى و التشريع ،و إذا كان هذا التشريع يأخذ الصفة الدينية أى الأكثر ثباتاً و قدسية من تشريع المجلس النيابي ، فإن مبدأ الخطأ في الفتوى و العودة عنه لا يعود مميزاً للفتوى الدينية عن قرارات مجلس الشعب البشري ، و مادام الخطأ البشري موجوداً في كليهما ، أفلا يكون احترام الدين بإبعاده عن هذا الخطأ و إيقاف العمل بنظام الفتوى هو الأكثر جدوىو سلامة ، و ترك التشريع للبشر يخطئون به أو يصيبون بمجلسهم التشريعي الموقربعيداً عن الدين و احتراماً له ؟
في هذه الحال سيتوقف الأزدواج التشريعي الذي تعاني منه كثير من المحاكمات القانونية ، خاصة ما تعلق منها بالأحوال الشخصية . هذا ناهيك عن كون الفتوى تبدو كما لو كانت نقصاً في الإسلام جاء المفتون ليكملوه لربنا، و نحن نعتقد أن ديننا اكتمل بختام الوحي و أن نبينا لم يقصر في تبليغ كامل دعوته ، و أن ما تركه الوحي دون أن يقول فيه كلمته هو إرادة ربانية ، و ما كان ربك نسياً حتى يأتي الفقهاء ليحلوا في المساحة المتروكة لنا حرة و يصادرونها ، لصالح توجهات إنسانية بشرية قابلة للخطأ كما هي قابلة للغواية و الطمع و الشر البشري .
كان ربنا يعلم بكل ما حدث و يحدث منذ الدعوة و حتى اليوم و حتى قيام الساعة ، لكنه لم يحدثنا لإتخاذ موقف ديني من كل جديد و لا أشار إليه ، و لا عين أحداً من قبله ينوب عنه ليتخذ القرارت مع كل جديد ، لقد سكت الوحي عن هذه الشئون ليترك لنا حرية اختيار حياتنا و شرائعنا و سياسات حكمنا و طرائفنا في الحياة بما يناسب زمننا و أخلاق زمننا و قيم زماننا و ذوق زماننا ، عن رغبة من هذا الوحي و قصد ، و إن وجود نظام الفتوى برمته هو افتئات على هذه الرغبة الربانية و تعدي على ذلك القصد السماوي ، خاصة إذا تذكرنا أن الإسلام ليس فيه هيئة أكليروس و لا رجل دين و لا واسطة بين العبد و الرب ، و كانت تلك فرادة الإسلام بين الأديان في بكارته الأولى المميزة له ، لذلك أسمى نفسه دين الفطرة ، و دين الفطرة ليس بحاجة لمفتين و ديار فتوى ، بقدر ما هو بحاجة لمؤمن عزيز كريم يحب ربه بكرامة و دون وصاية من الأزهر أو دار الإفتاء .
تبقى كلمة أخيرة ، و هى من المعلوم من السياسة بالضرورة ، أنه لا توجد دولة أو حكومة بحاجة لهيئة فتوى دينية ، سوى تلك التي تريد تمرير قرارات ضد مصالح شعبها ، مما يجعلها بحاجة لفرمانات سماوية حتى يطيع الجميع دون مناقشة ، طاعة للدين ! !
أيها المسلمون : أعلنوا إيقاف العمل بنظام الفتوى ……………. اكرم لكم … ولدينكم .
د. سيد القمني
2007 / 6 /30