ومن دخل بيت التربيون فهو آمن !!
عندما كنت أطالع كتاب تاريخ الخلفاء للإمام جلال الدين السيوطى قرأت شأناً سبق أن قرأته فى كل مصادر التراث؛ لكنه هذه المرة أثار أكثر من سؤال؛ يقول السيوطى مردداً ما هو متواتر عند الجميع على اتفاق: «أخرج ابن مردويه عن مجاهد قال: كان عمر يرى الرأي فينزل به القرآن».. و«أخرج ابن عساكر عن على قال: «إن فى القرآن لرأيا من رأى عمر».. وأخرج ابن عمر مرفوعاً: «ما قال الناس فى شىء وقال فيه عمر؛ إلا جاء القرآن بنحو ما قال عمر». وأخرج الشيخان عن عمر قال: «وافقت ربى فى ثلاث؛ قلت يارسول الله لو اتخذنا مقام إبراهيم مصلى؛ فنزلت «واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى» /125/ البقرة] وقلت يارسول الله يدخل على نسائك البر والفاجر فلو أمرتهن يتحجبن، فنزلت آية الحجاب؛ واجتمع نساء النبى فى الغيرة؛ فقلت عسى ربى أن يطلقكن وأن يبدله أزواجاً خيراً منكن.. فنزلت كذلك». هنا يقف العقل لايتزحزح عن طرح أسئلة ربما كانت عند البعض محرمة.. بعقلية الآن ممكن أن نتمنى، كنا نتمنى لو رأى الخليفة عمر رأياً فى تداول السلطة وتنظيم الدولة وآليات مراقبة الحكام، أو أن يرى ما يراه عامة الشعب؛ أو أن يرى للمسلمين كلهم حقاً فى الترشيح والانتخاب بإقامة مجلس شيوخ؛ أو حتى جمعية عمومية مثل تلك التى أقامها الروم فى القرن الخامس قبل الميلاد بعد كفاح طويل حصل بعده الشعب على حقوقه السياسية؛ وأن يكون له فى الاقتراع صوت مؤثر؛ وأن يشارك فيما تسنه الدولة من قوانين بالاستفتاء على القوانين، ونتحسر لأن الخليفة عمر لم ير ذلك؛ وما نطرحه هنا من أسئلة هو أسئلة اليوم؛ ولن تجد لها إجابة مرضية فى طيات الماضى العربى.. لكن تجربة الرومان تفرض نفسها علينا. حددت دولة روما معنى المواطنة وحقوق المواطن وواجباته؛ وكان المواطنون هم نسل القبائل الثلاث الأصلية فى البلاد؛ أو من حالفوهم أو تبنوهم.. إضافة إلى منح حق المواطنة للغرباء الذين تمنحهم روما المواطنة لما قدموه لها من إخلاص، ومع هذا التاريخ البعيد لم يشهد العالم دولة حرصت على مواطنيها وحقوقهم قدر ما حرصت روما.. كان المواطن محصناً؛ له حصانة من التعرض لأى قهر أو عسف أو ظلم أو إرهاب أو إرغام؛ لأنه كان بإمكانه أن يرفع شكواه ضد أى موظف أو أى سلطة إلى الجمعية الوطنية العمومية. كان المواطن عضواً فى مجلس مئوى؛ وكل مائة لهم رئيس منتخب؛ ومجموع الرؤساء يشكل أعضاء الجمعية الوطنية، هم من يختارون الحكام؛ وينظرون فى الإجراءات التى يعرضها الموظفون أو مجلس الشيوخ لتجيزها أو ترفضها؛ لأنها كانت هى كل الشعب. ومع الاهتمام بالمواطن تقرر أن تكون هى الناظر الوحيد فى أى حكم بالإعدام يصدر ضد مواطن؛ وكانت هى من يعلن الحرب ويعقد الصلح؛ وكان من يدعوها إلى الاجتماع القنصل الملقب بلقب (التربيون). طالب الشعب بمزيد من الديمقراطية والحريات؛ طلبوا أن تكون القوانين مدونة وواضحة ومحددة بدقة شديدة؛ وأن يتم إعلام الشعب كله بهذه القوانين. ووافق مجلس الشيوخ عام 454ق.م. فأرسل لجنة من ثلاثة قانونيين إلى أثينا لمقابلة فقهاء القانون فيها وعلى رأسهم (سولون) المشهور؛ وكتابة تقرير عن قوانين اليونان للاستفادة بما عندهم؛ ولم يعتبروا ذلك غزواً ثقافياً بل هم من سعى سعى المتحضرين إلى المتحضرين مثلهم ليتعلموا منهم و ينقلوا عنهم. وعاد سفراء القانون بتقرير تم وضعه بيد عشرة قانونيين لروما. وتمت الكتابة لأول دستور قانونى فى التاريخ بيد الشعب وبعلم الشعب وبمشاركة الشعب وبقرار من الشعب؛ وتم عرضه فى اثنتى عشرة لوحة على الجمعية العمومية فعدلت بعض القوانين؛ ثم أمرت بتثبيت الألواح فى السوق العامة حتى لايكون المواطن الرومانى جاهلاً بالقانون الذى يحكمه؛ لأنه مواطن محترم؛ ولأنه هو روما نفسها. لو حاولنا المقارنة هنا مع ما كان يحدث فى جزيرة العرب فعلينا أولا استبعاد الزمن النبوى لأنه فوق أى مقارنة من أى لون؛ لكن من جاءوا بعده كانوا بشراً لا أنبياء؛ ولأنه كان خاتم اتصال السماء بالأرض؛ فكل فعل وكل أمر تم الأمر به وكل قاعدة تم وضعها؛ كلها فعال بشر لا علاقة لهم بالسماء؛ وأنه مادام قد تم وضعها بيد بشر فهى كلها وضعية حتى البخارى ومسلم وكتب السيرة والتاريخ الإسلامى؛ كلها يؤخذ منه ويرد عليه، كلها وضعى مثل قوانيننا الوضعية تماماً اليوم؛ التى يرفضها بعض رجال الدين بخديعة رديئة لجماهير المؤمنين باحتساب ما بأيديهم (من عمل الفقهاء وسلوك الصحابة وقرارات المبشرين بالجنة بعد موت الرسول)، هى مقدسات لاتمس؛ وهى لم تكن يوماً سوى وضعية من وضع البشر. وكمثال كيف حكم الخليفة أبو بكر المسلمين بالكتاب والسنة، بينما لم يكن قد تم جمع الكتاب ولاتدوين السنة؛ ومن ثم كانت معظم آيات الكتاب وجل الأحاديث غير معلومة لعامة المسلمين الذين ستطبق عليهم أحكام القرآن والسنة؛ فتم حكم الأمة بكتاب لم يجمع بعد من اللخاف والأكتاف والعظم والأحجار والعسيب والرق؛ لأن ذلك لم يتم إلا فى زمن الخليفة عثمان الذى أرسل لكل مصر بعد ذلك مصحفاً واحداً. كان القانون الذى ستحكم به الأمة، التى هى محل تطبيق هذا القانون؛ غير معروف من الأمة. وهو السبب الرئيسى الذى أعطى الفرصة للوضّاعين والمفتين والرواة للدس فى القانون الإسلامى من باب تحقيق مصالح آنية شخصية للشيخ أو للسلطان لا فرق؛ وأصبحت اليوم قوانين مقدسة تتفنن فى إذلال المسلمين. فى روما كان الشعب مصرا على تحقيق أعلى المكاسب؛ كانت فى روما طبقتان متميزتان هما الأشراف ورجال الأعمال؛ وكان الشعب بالتساوى بالطبقتين، ونال مراده فى عام 356 ق.م. وتم تعيين أول شخصية من العامة حاكما؛ ثم أصبح العامة يشغلون وظائف الرقباء على الحكام، ومن هؤلاء العامة كانت تلك الشخصية الكبيرة؛ القنصل العام الملقب بـ (التربيون). كانت آخر خطوات المساواة كأسنان المشط ونيل الحقوق المدنية عام 287 ق.م. عندما اكتسبت أحكام الجمعية الوطنية قوة القانون حتى لو عارضت فى ذلك قرارات لمجلس الشيوخ. أما التربيون ممثل الجماهير فقد كان وحده من يملك حقا عرفه التاريخ بعد ذلك باسم حق الفيتو أى الاعتراض باسم الجماهير ضد أى قرار وكان يعنى «أنا أحرم Veto». عند هؤلاء الرومانيين لم يبحثوا عن أى رب يكون مسئولا عن الدولة أو القانون وآليات لتنفيذ القانون ورعايته؛ كان التربيون وبيته وما حوله مقدسا قدسية مدنية؛ حصينا باتفاق الشعب كله على حمايته؛ لأنه هو من كان يحمى الشعب من أى جور حكومى؛ باب بيته مفتوح أربعا وعشرين ساعة؛ يلجأ إليه كل مواطن ليضمن محاكمة عادلة أو يقدم شكوى عادلة ضد الحكومة. إن توفير الآليات التى تشرف على حماية القانون وإعلام الناس به والسهر على تنفيذه بمساواة لم تتوافر فى دولة ما بعد النبى؛ لذلك ضل الجانب النظرى الجميل طريقه من قبيل: متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا؛ اضرب ابن الأكرمين. ليس المقصود من هذه المقارنة إبراز تفوق شعب على شعب؛ أو قانون على قانون؛ لكنها بالقطع لإبراز تفوق الآليات الحقوقية الرومانية؛ مع انعدامها تقريبا فى جزيرة العرب. فماذا يمكن أن نستنتج من ذلك؟ ماذا يمكن أن نستنتج من قول كتب السير والحديث أن الخليفة أبا بكر قرر الحكم بالكتاب والسنة النتيجة هنا – مع علمنا بمكانة أبى بكر وموقعه فى الدعوة – أن الفهم الواجب هو أنه كان يحكم بضميره الشخصى كأكبر صحابة الرسول وصديقه المصدق؛ لأنه لم يكن هناك قانون؛ النتيجة الثانية هى أن الله لم يهب الدولة الإسلامية دستورا وقانونا لنظم حكمها وإدارتها عن عمد؛ كما سكت عن كثير من الشئون ليتركها لنا مساحة حرة طليقة نفعل فيها ما نشاء وقتما نشاء بالطريقة التى نشاء، لكن قناصى التاريخ وشذاذ الآفاق تمكنوا مبكراً من السطو على معظم المساحات الحرة التى تركها لنا الله نفكر وندبر وننتقى أى النظم فى الحكم أنفع لمصالحنا. إن كل فتوى كانت تصدر ومازالت تحمل فى بعضها تحريماً جديداً، وكل تحريم هو اقتطاع لجزء من حريات الناس لضمها تحت عباءة المقدس وأصحابه، هذا رغم أن فتاواهم تلك بدورها وضعية فلا يأتى الوحى أيا منهم مهما كبر شأنه علينا، لقد انتهت أيام وضع الحديث بموت القادرين على الاختراع والوضع من الصحابة والتابعين، لأنهم كانوا صحابة وتابعين، لذلك حلت الفتوى محل الحديث الموضوع، تدخلت فى كل شأن حتى اعتاد المسلم أن يستفتى فى شئون تشير أحيانا إلى طلاسم من غباء متراكم، وأحيانا إلى نفس هانت على نفسها فصارت عبدة، وأصبح الاستفتاء خضوعاً لحديث نبوى، فكلاهما يشغل الآخر ويشتغل به «لا خاب من استشار ولا ندم من استخار». عندما طلب الرب من بنى إسرائيل أن يذبحوا بقرة وسكت كان عليهم استثمار مساحة الحرية المتروكة لهم ويأتوا بأى بقرة، لكنهم كانوا لزجين يتمسحون بالدين أكثر مما هو مطلوب منهم، ويتقربون إليه بأكثر مما يطلب منهم، ويلحفون فى الفتوى بحثا عن مزيد من القيود وضياع المساحات الحرة، فسألوا ربهم عن لونها وشكلها وسنها، اليهود فعلوا ذلك عندما كانوا فى التيه ضائعين، وهو ما يفعله المسلمون اليوم. وهم فى قاع العالم الثالث نائمين. هكذا تقدست عند المسلمين أساليب وأفكار وأشخاص وآراء شخصية بتقديس الصحابة دون احترام للأمانة التاريخية والعقلية، الأمانة التى هى خاصية الإنسان بين كل مخلوقات الله، لأنها اختياره، لأنها حريته، ولأن الله يعلم معنى هذه الحرية وتلك المسئولية، فقد خلق لها الإنسان وكلفه بها ولم يكلف لا الجن ولا الملائكة. هذه الأمانة سرقت منا منذ فجر التاريخ الإسلامى عقب انقطاع الوحى بسويعات عندما استلم البشر شأننا وعاملونا ليس بحسباننا رعية، لكن بحسباننا عبيدا لله الذى هم وكلاؤه، لذلك كان لابد أن تفشل الدولة فى حماية خلفائها، وأن تفشل فى درء الفتنة والتصدى لها، وتفشل فى خلق آليات تحمى الكعبة من الضرب بالمنجنيق ومن الحرق، لأنها صادرت ما كان مساحة حرية ربانية ممنوحة للناس بسكوت الوحى عنها، لذلك كان باب الدولة الإسلامية نهباً للفتن، ولذلك بيت التربيون لمن دخله كان آمناً. إنهم يشيعون بين البسطاء أنه لا يجوز التخلى عن الدستور السماوى والاتجاه للقانون الوضعى، ويجعلون ذلك إنكاراً لمعلوم من الدين بالضرورة، رغم أن كل فقهنا بل كل مدوننا وضعى عدا القرآن وحده. الغريب أن الإخوان المسلمين ظلوا على هذا المبدأ طويلا «الإسلام ديننا والقرآن دستورنا»؛ ثم تخلوا عنه بكل يسر وسهولة – وهم «المسلمون» – اتجاها نحو الديمقراطية الوضعية وقوانينها الوضعية؟ ألا يعنى ذلك أن هناك دسيسة تاريخية فى المسألة تم بموجبها استبدال «القرآن دستور ديننا» بـ«القرآن دستورنا». نعم القرآن دستور ديننا، لكنه لم يقل لنا يوما طريقة الحكم.. وهل بهذا المعنى الذى يسببه إرباك الإخوان وإخوانهم من مدعى الدعوة للناس البسطاء أن يكون القانون الديمقراطى الوضعى هو الإصلاح لقانون ربانى. ألا يعنى ذلك أن الوضعى أصبح الأرقى والقيم على الربانى؟ بينما عندما نعترف أن السماء قد تخلت عمدا عن وضع أى قوانين للسياسة أو الحكم أو الاقتصاد أو غيرها من شئون الحياة، وتأكد ذلك عندما لم يسم النبى خليفة له من بعده لأنه لو حدده ما حدث اجتماع السقيفة فقط لاختيار الحاكم دون اختيار حتى نظام بعينه للحكم. بدليل اختلاف الراشدين الأربعة فى طريقة تولى كل منهم للحكم، عندما نعترف بذلك نحترم أنفسنا وديننا ودنيانا. إن تجنيب القرآن مناطق المصالح والزلل السياسية وتفاصيل إدارة الدولة هو الإخلاص الحقيقى للقرآن للارتقاء به عن مناطق مزالق ملغومة تاريخيا وحاليا، كان الله يعلم أن الدنيا تتطور وأنه ستكون هناك أمريكا وأوروبا، ولم يضع لنا خططا بشأن ذلك ولم يحدثنا عنهما. ولا عن تلك الأحداث لأنه كان مستقبلنا، مستقبل البشرية الذى تركه لها الله لتصنعه حتى تكون مسئولة عنه، كما ترك لنا ذات الشئون بأيدينا وشئوننا تختلف يوما عن يوم وتتعقد يوما بعد يوم، وتظل كلمة ربك الثابتة الواحدة كريمة مصانة بعيدا عن عبث العابثين واستثمار الانتهازيين.
د. سيد القمني
2007 / 2 /13