التكفير الجاهزة في مجمع البحوث: للمشايخ حق – الفيتو-!
ليست هذه هي المرة الأولى التي أتعرض فيها لمحنة التكفير رسمياً، فقد سبق أن حُوكمت على كتابي “رب الزمان” أمام نيابة الدولة العليا وأمام محاكم الدولة “شمال القاهرة”. وبسببها تعرضت لهجمةٍ شرسة استمرت ستة اشهر من صحف الجنس والإثارة والفضائح، التي تحولت فجأة إلى حامي حمى الإسلام، وبالطبع من الصحف الإسلامية جميعا. دون أن يقوم صحفي واحد بحسبانه مثقفاً يحمل قلماً بمراجعة ما قال الأزهر عن الكتاب والتيقن من صدق القول. كل ما حدث أنه تم توزيع نوتة التكفير التي أصدرها مجمع البحوث الأزهري، لتعيد توزيعها وإعادة إنتاجها صحف الإثارة. هذا رغم صدور حكمٍ تاريخي أصدره القاضي سلامة سليم دَخَلَ به تاريخ الشرف القضائي كنموذج النبالة والصدق وتحري الدقة قبل إصدار الأحكام. فبرّأني وأفرج عن كتابي وأعاده إلى سوق الكتاب مرة أخرى.
كانت المحنة شديدة هزت كل أركان الحياة من حولي هزاً، وكان موقف المثقفين المؤدلجين شديد الأثر على نفسي مقارناً بمواقف أخرى لأناس لا اعرفهم، محامين، أساتذة أجلاء، متطوعين لقضيتي بالعشرات، ومنهم من جاء من خارج مصر وقضى المدة في الفنادق تطوعاً. أو بموقف أقاربي البسطاء الذين دفعتهم الحمية الأسرية لخوض المعارك أحياناً في القرية الهادئة إزاء وصمي بالكُفر عبر ازدرائي للأديان حسب التعبير القانوني. ومازلت اذكر موقف “روزاليوسف” الشريف قبل أن أدوام الكتابة لها، وكانت علاقتي بها علاقة قارئ لمجلة انشر فيها موضوعاً أو اثنين في العام. وبقدر ما كان وقع كلمة الكفر على أذن المصري المتديّن بطبعه دافعاً له لإنكاري وحصاري بعيون الاتهام من جيراني ومخاطبتي بما يكن عن الكراهية. وبعد التجربة المحنة بشهور وجدتني أفقد شهوة الكتابة مع رغبة في الانسحاب من الحياة الثقافية استمرت لأكثر من سنتين ونصف السنة بعد أن شعرت بامتهانٍ لست أهلاً له، في وقت كنت أزهو فيه بأني قد أنجزت ما أنجزت كبيراً كان أم صغيرا في ظروف كانت هي المحال بعينه لأي إنجاز. فلا المرض يهدأ ليترك الجسد قليلا بغير ألم، ولا الظروف الاقتصادية القاسية كانت تسمح حتى بالتزود بالمصادر. فكان البحث عنها وتحويلها إلى مادة للعمل العلمي من دار الكتب إلى بقية المكتبات الممكنة، كل هذا كان دافعاً لفخري بإنجازي في وقت كان البعض فيه يتقاضى ويأخذ راتبه كوبونات نفطية من دم أطفال العراق. وكان هذا تحديداً من قام بمهاجمتي في صحفه باعتباري عميلاً خائناً.
وإلا لماذا التكفير الأزهري؟ وليس بعد الكفر ذنب، وتجوز كل الذنوب وتجوز كل الاتهامات الممكنة.
هل يدري سادتنا المشايخ في مجمع البحوث الأزهري، وهم يصدرون قراراتهم القابلة للخطأ والصواب (” فكلهم من بنى آدم”) ما تحدثه تقاريرهم بحق المفكرين في مجتمع كمجتمعنا؟
هل هذا هو الطريق الذي تأخذنا إليه الكلمة؟ وهل سيظل الوطن بهذه القسوة على عشّاقه الذين يكتبون ويعانون حبا فيه وولها عليه؟
يوم 29 يونيو اتصلت بي إحدى الصحف لتفاجئني بورود خبر من الأزهر بمصادرة كتابي”شكراً بن لادن” ومنعه من التداول. وبعدها تتالت الاتصالات مما أكّد لي الخبر. وقمت بفصل الهاتف لأعطى نفسي فرصة للتفكير فيما أنا فيه على مضض ومرارة شديدين وألم نفسي لتكرار المأساة الملهاة مع سؤالٍ ملح يقف وراء دماغي يهتف: ماذا أخذت من كل هذا؟
لو حاولت الإجابة فلا شك أني قد أخذت الكثير. فبقدر ما أصبحت غريباً في مجتمع يعاني من وعي مأزوم، بقدر ما تشكل لي المجتمع الحلم والمجتمع الأمل ممثلاً في قرّائي الذين أصبحوا هم الأهل والعشيرة، وبينهم اشعر بدفء الإنسانية والمحبة النقية.
ولست ارتكب بطولة مزيفة بما اكتب كما وصفني أحد باحثي مركز ابن خلدون. كل ما في أمري أني مواطن يحب بلاده ويهيم بها وجداً ويسعى إلى ما يعتقد انه خير لها، وشاء حظي لا اعرف أن كان جيداً أو عاثراً أن اهتم بشئون التراث الإسلامي، مع همٍ وكرب عظيم لما ألت إليه أحوال الوطن دفعني للبحث عن جذور أخطائنا التي نرتكبها في حق أنفسنا في الثقافة المحركة للمجتمع، أي في التراث الإسلامي. وقمت أقدم هذا للناس يقبله من يقبله ويرفضه من يرفضه؛ لأن ما أكتبه يفترض إفراز الموقفين. أنا مواطن “نفر” بسيط يعتقد صواب ما يفعل، وإذا كان في هذا الصواب ما حاد عن الجادة فلماذا لا نسمع نقاشاً لطيفاً ورداً مهذباً يقوم بتوضيح الصواب من الخطأ دون تكفير ودون محاكمات ودون مشهدنا الفضيحة تمام العالم؟
لماذا لا يدافع الأزاهرة عن الإسلام دفاعاً مقنعاً عقلانياً موثّقاً إزاء ما يرونه من وجهة نظرهم أنه ضد الإسلام؟. إننا ندفع لهم عيش البلهنية وسعادة الدنيا الفاخرة ومن بعدها سعادة الآخرة من جيوبنا ضرائب ليقوموا جهة تخلوا عنها منذ زمن الفقهاء الأربعة، وجلسوا بعدها على صدورنا ألف عام يؤكدون لنا أنهم حراس الدين والدنيا. فإذا الدين تكفير وإرهاب، وإذا الدنيا تلف وتخلف عظيم، فإذا تطوع احد ما بالنيابة عنهم لدفع الموقف وتحريكه من مياهه الآسنة قاموا عليه قومة رجل واحد، دون أن يبدوا رأياً واضحاً ناقداً مفنداً للجديد المطروح.
إنه يهز غفوتهم اللذيذة ويزعجهم والحل هو إسكاته بتهمة المروق على الدين. غير مدركين إني قدمت وجهة نظر ربما خالفت وجهة نظرهم، لكن هذا لا يعني ان وجهة نظر أحدنا هي الصواب المطلق والأخرى هي الباطل المطلق. ففي البحث العلمي يقدم كل باحث وجهة نظره التي انتهى إليها، يَفعلُ ذلك القانوني وعالم الاجتماع والمؤرخ والفيلسوف ورجل الدين، ويصبح موقف رجل الدين رأياً لا حرماً مقدساً، يقف على قدم وساق مع بقية الأطراف الأخرى مع ترك المتلقي ليفهم ويقبل ما يقبل عن بينة، ويرفض ما يرفض عن بينة. لكن يبدو أن في بلادنا يحق لرجل الدين “حق الفيتو” في زمن نتحدث فيه عن الإصلاح وعن الحريات وعن الديمقراطية وعن المستقبل. في هذا الزمن يتصور بعضنا انه ممثل الرب على الأرض، وانه الوحيد الذي اطلع على المقصد الإلهي من كل نصوصه دون غيره من البشر، ومن ثم ينفى ويصادر ويكفّر رأياً يخالفه؛ لان رأيه هو الصواب المطلق ورأي أي مختلف معه هو الكفر المطلق.
سيد القمني
2004 / 7 / 10