الإصلاح 6 – قيمة الوفاء بالعهد ( ب – النقض الثاني لصحيفة المعاقل )
خريطة الطريق نحو الإصلاح : ( الإسلام و القيم ) : _
7 – قيمة الوفاء بالعهد ( ب – النقض الثاني لصحيفة المعاقل ) : _
أتابع هنا ( قيمة الوفاء بالعهد ) في الإسلام و التي يتغني بها المتأسلمون ، بدراسة للنقض الثاني لصحيفة المعاقل التي عقدها النبي محمد ( ص ) لكل أطراف المدينة و فرقها ، و لم تعش شهوراً ، حتى تم نقضها ، النقض الأول بغزوة النضير و إجلائهم عن مدينة يثرب ، فتوجه بعضهم نحو فلسطين ، و توجه بعضهم الآخر بقيادة زعيمهم حيي بن أخطب نحو واحة خيبر شمالي الحجاز على مبعدة حوالي 400 كم من يثرب ، ضيوفاً على أهل ملتهم هناك ، …. ثم النقض الثاني الذي انتهي بمجزرة قريظة و هو مناط البحث هنا.
في حديثه عن القيم في الإسلام فإن الشيخ قرضاوي المرجع الفقهي الأنشر يذكر لنا الآيات الكريمة ” قد أفلح المؤمنون … الذين هم لأمانتهم و عهودهم راعون ، و الذين على صلواتهم يحافظون ، أولئك هم الوارثون ، الذين يرثون الفردوس هم فيها خالدون / 51 : 11 / المؤمنون ” . و يعقب بأن ذلك يعني أن الله قد جعل من قيمة الوفاء بالعهد قيمة ترقي في تلازمها مع أداء العبادات ، فيكون المسلم متعبداً لربه عندما يراعي هذه القيمة / ملامح المجتمع المسلم / مكتبة وهبه / ص 92 : 109 ” .
معلوم بكتبنا التراثية أنه رغم النزاع الذي نشب بين قبيلة النضير اليهودية و المسلمين و انتهى بإجلاء النضير ، فإن قبيلة قريظة اليهودية ، رفضت مد أي عون لشقيقتها النضير ، و أصرت على الحفاظ على عهد صحيفة المعاقل ، منعاً لأي سبب قد يجر عليها ما هي في غني عنه .
و قد حظي ( حيي بن أخطب ) سيد النضير بسهم وافر من الذكر في تاريخنا لأنه هو من قام بحشد العرب و تحزيب الأحزاب ضد المسلمين ، و جمعهم في حلف ضد يثرب لكسر شوكة المسلمين، ثأراً لقبيلتي قينقاع و النضير ، فأخذ سادة العرب اليهود مثل سلام بن أبي الحقيق و كنانة بن الربيع و هوذة بن قيس الوائلي و أبو عمار الوائلي ، و انحدر بهم إلى مكة ليدرك ثأره من محمد ( ص ) ، و استجابت قريش و أحلافها العرب لوضع حد لما حدث لتجارتهم و أمنهم على يد المسلمين ، مع رغبة أكيدة في الثأر لقتلاها ، في حلف عظيم توجهت جيوشه نحو يثرب بغرض توجيه ضربة قاتلة و نهائية تجهز على الوجود الإسلامي في الجزيرة . جيوش جمعت فرسان كنانة و أهل تهامة و أشاوس غطفان و أشداء نجد الذين وتروا في زعامتهم المغدورة ، ( و لم ينس الفزاريون مقتلة عقيلتهم أم قرفة تمزيقاً بين بعيرين على يد زيد بن حارثة ، و التي تصورها أفلامنا السينمائية الإسلامية لكن بالعكس ، فتجعل من مسلمة فقيرة هي من تم تمزيقها بالبعيرين المتعاكسين على يد الأشرار الكفار / و هو ما يستدعي السؤال حول قيمة الصدق في مشايخ الإسلام ، مع صمت كل الفقهاء و الشراح و الوعاظ عن هذه الكذبة الكبرى ) . لكن زعيم غطفان الجديد عيينه بن حصن الفزاري ما شغله ثأر أم قرفة قدر ما شغله العائد المادي ، فمنحه يهود خيبر ثمر بلادهم لمدة عام كامل ” فلما سمع بهم رسول الله ( ص ) ضرب الخندق حول المدينة ، و كان الذي أشار على رسول الله ( ص ) ضرب بالخندق سلمان الفارسي ، قال : يا رسول الله كنا بفارس إذا حوصرنا خندقنا علينا / الطبري / التاريخ / ج 2 / ص 566 ” .
سبق وأخذ النبي في أحد بمشورة شباب المسلمين المتحمسين فخرج إلى عدو أكثر عدداً و عدة فهزم المسلمون شر هزيمة ، لذلك قرر في الخندق أن يأخذ بنصيحة عبد الله بن أبي سلول التي سبق و قالها له في أحد كخبير عسكري و لم يؤخذ بها حينها . قال عبد الله بن أبي سلول : ” يا رسول الله أقم بالمدينة و لا تخرج إليهم ، فوالله ما خرجنا منها إلي عدو قط إلا و أصاب منا ، و لا دخلها علينا إلا أصبنا منه ، فدعهم يا رسول الله ، فإن أقاموا أقاموا بشر محبس ، و إن دخلوا قاتلهم الرجال في وجههم . و رماهم النساء و الصبيان بالحجارة من فوقهم ، و إذا رجعوا رجعوا خائبين كما جاءوا / السهيلي / الروض الأنف / ج 3 / ص 149 ” .
و مع ذلك فإن كتبنا التراثية لا تني تصف ابن سلول بكبير المنافقين ، فقط لأنه كان صوتاً معارضاً أحياناً . لكن عندما تعلق الأمر ببلده أحسن النصح مخلصاً . إلا أن ما يلفت النظر بشدة أن قريظة لم تقف على الحياد بل أخلصت لعهدها ، فأمدت جيش المسلمين بآلات الحفر و نقل الأتربة ” فاستعاروا من بني قريظة آلة كثيرة و مساحي و كرازين و مكاتل / الحلبي / السيرة / ج 2 / ص 63 ” .
و بينما وصل جيش الأحلاف إلى عشرة آلاف مقاتل ، لم تتمكن يثرب بأقصي إمكانات الحشد من جمع سوى ثلاث آلاف كبيرة و صغيرة و شاب و حدث ، و اشتد الحصار على المسلمين فنبأهم الرسول بفتح مدائن كسري تبشيراً لهم و رفعاً لروحهم المعنوية ، لكن معارضاً أخر لا يمكن احتسابه من المنافقين لأنه من أهل بدر الذين غفر الله لهم ما تقدم من ذنبهم و ما تأخر ، هو معتب بن قشير / أنظر : ابن هاشم / السيرة بشرح السهيلي بالروض الأنف / ج 3 / 61 ” ، الذي قال : ” ألا تعجبون ؟ يعدكم الباطل ! و يخبركم أنه ينظر من يثرب إلى الحيرة و مدائن كسرى و أنها تفتح لكم ، و أنتم لا تستطيعون أن تبرزوا ؟ / ابن الأثير / الكامل / ج 2 / ص 179 ” . أو في قول آخر : ” كان محمد يعدنا أن نأكل كنوز كسرى و قيصر ، و أحدنا اليوم لا يأمن على نفسه أن يذهب إلى الغائط / ابن هشام / الروض الأنف / ج 3 / ص 261 ” .
حتى حفر الخندق أثبتت قريظة وعيها الدقيق بموقفها الشديد الحساسية ، خاصة بعدما أصبحت بيوتها و حصونها جزءاً من الخندق ، فالخندق يحيط بالمدينة و ينتهى عند جبل سلع من طرف كحصن طبيعي يكفيه بعض الرماة ، ثم يصل حتى حصن قريظة على حافة المدينة بمواجهة الأحزاب مباشرة / لذلك كانت قريظة نقطة ضعف يثرب الوحيدة و التي أدركها جميع الأطراف : المسلمون و قريظة و الأحزاب ، كان يكفي أن تفتح قريظة باب حصنها لتمر عبره الأحزاب لينتهي الأمر كأن لم يكن .
وعي الحلف نقطة الضعف ، فذهب حيي بن أخطب الزعيم النضري المطرود إلى أبواب قريظة ، فأبى أن يفتح له سيد قريظة كعب بن أسد القرظي ، فظل يخاطبه و يذكره و ينصحه يخوفة من المسلمين وكيف جاءة بفرصة قد لاتتكرر للتحرر من سلطان المسلمين ، حتى فتح له فدخل ، ” فلم يزل حيي بكعب يفتله في الذروة و في الغارب حتى سمع له ، على أن أعطاه عهداً من الله و ميثاقاً ، لئن رجعت قريش و غطفان ولم يصيبوا محمداً ، أن أدخل معك في حصنك ، حتى يصيبني ما أصابك ، فنقض كعب بن أسد عهده ، و برئ مما كان عليه ، فيما بينه و بين رسول الله ( ص ) / الطبري / التاريخ / ج 2 / ص 571 ، أنظر أيضاً ابن هشام في السهيلي / ج 3 / ص 261 ، و ابن الأثير في الكامل / ج 2 / ص 180 ” .
و هكذا أطمانت قريظة للحلفاءمن الأحزاب و استقوت بهم ، مما يؤكد ما سبق و ذهبنا إليه في الدراسات السابقة عن عهد صحيفة المعاقل ، و أنها قد تمت كتابتها تحت السلطان المحمدي و بدعم من القوة الإسلامية ، لذلك ما أن أطمأنت قريظة إلى مساندة جيش الأحزاب ، حتى بدأت تفرض شروط استمرار صحيفة المعاقل من عدمه .
و بلغ الأمر المسلمين المحاصرين المجهدين الفزعين ما يحدث في حصون قريظة ، فأرسل النبي وفداً من الصحابة لبني قريظة ، فاشترطت قريظة لاستمرار الالتزام بالصحيفة و في مدد المسلمين ، إعادة بني النضير إلى المدينة مرة أخرى ، فتشاتموا و عادوا ليخبروا النبي ، و أمسى واضحاً حجم الخطر الآتي .
و عاد المسلمون للتدبر ليصلوا إلى نتيجة ، أنه إذا كانت نقطة ضعف يثرب هي قريظة ، فإن نقطة ضعف الأحزاب هي الأحمق الطماع المطاع ( بوصف النبي لة ) عيينه بن حصن الفزاري زعيم غطفان ، الذي يمكن تحويل موقفه بمزيد من الإغراءات المادية .
و تم التفاوض سراً مع زعيم عطفان على انسحاب الطماع برجاله مقابل ثلث ثمار المدينة ، لكن عينيه طلب النصف على ألا يكتفى بالانسحاب بجيوشة ، بل والإيقاع بين الأحزاب بالفتنة ، يرسل من يوقع الشك بين الأحزاب و بعضها ، و تمت الموافقة . و عندما أخبر النبي سعد بن معاذ و سعد بن عباده بعد انصراف وفد غطفان ، احتجا و قالا : إنا نرى ألا نعطيهم إلا السيف ، ليرد النبي : ” فأنت و ذاك ” ، فيتناول بن معاذ صحيفة التعاقد و يمحوها قائلاً : ” فليجهدوا علينا / ابن سعد / الطبقات / مج 2 / ج 1 / ص 53 ” .
بينما كان رجل غطفان الداهية نعيم بن مسعود ينفذ ما سمعه النبي و خطته للإيقاع بين الأحزاب ، أو في مختصر مفيد قوله ( ص ) لابن مسعود : ” خذل عنا إن استطعت ، فإن الحرب خدعة / ابن هشام في السهيلي / ج 3 / ص 265 ” . فنقض المسلمون الصحابة عهداً وقعه النبي دون علم الطرف الثاني من العهد !! بينما كان الطرف الثانى ينفذ جانبة من العهد .
بينما كان ابن مسعود يشكك قريظة في الأحزاب ، طلبت قريظة من الأحزاب رجالا من كبار أشرافها ضماناً لهم يدخلون حصنهم معهم كما دخل حيي بن أحطب ، بينما كان قد أخبر الأحزاب قبلها أن قريظة تتآمر بهم و ستطلب منهم رجالاً كباراً من زعماء الأحزاب تسلمهم لمحمد ليقتلهم .
و في ليلة شاثية قاسية مرعدة مبرقة وقع الخصام بين قريظة و الأحزاب ، مما دفع أبا سفيان للنداء بعودة الجيوش بعد نفاذ مخزون الزاد و الماء و اشتداد العاصفة . و هكذا أمكن لابن هشام القول : ” و خذل الله بينهم ” و ليس نعيم بن مسعود الأشجعي الغطفانى/ السيرة في السهيلي / ج 3 / ص 265 ، 266 ” .
و صدق الله و عده لنبيه بانشمار الأحزاب راجعين إلى بلادهم ، ناهيك عن النتيجة الأهم و الأخطر و هي تحرير يثرب تماماً من العنصر اليهودي ، بعد أن همت قريظة بالخيانة ، فقد زحف الجيش الإسلامي و حاصر قريظة ، فأرسلت لمحمد أن يرسل لها أبا لبابة بن المنذر الأوسي ، ” قالوا : يا أبا لبابة : ماذا ترى ؟ و بماذا تأمرنا ؟ فإنه لا طاقة لنا بالقتال ” و جاء رد أبي لبابة بإشارة بإصبعه مروراً على عنقه ( يريهم أنه الذبح ) / ابن كثير / البداية / ج 4 / ص 121 ” .
يروي الطبري : ” فقام إليه الرجال و أجهش إليه النساء ، و الصبيان يبكون في وجهه ، فرق لهم ، و قالوا : يا أبا لبابة أترى أن ننزل على حكم محمد ، قال : نعم ، ثم أشار بيده إلى حلقه : إنه الذبح / التاريخ / ج 2 / ص 584 ” . ” و قد كان حيي بن أخطب النضري قد دخل على بني قريظة في حصونهم بعد أن رجعت عنهم قريش و غطفان ، وفاء لكعب بن أسد بما كان قد عاهده عليه / نفسه / ص 583 ” ، فأي قيمة للوفاء بالعهد يعدل احترامها تقديم النفس للموت عن النكوص عنه القيمة ؟ ! ” ثم استنزلوا فحسبهم رسول الله .. ثم خرج إلى سوق المدينة فخندق بها خنادق / نفسه / ص 588 ” ( أى أمر بحفر حفر بالسوق ، و ذلك قبل صدور أى حكم بشأنهم ) .
قامت الأوس تتشفع عند النبي لحلفائها القرظيين كما سبق و تشفعت الخزرج للنضير فخرجوا بحياتهم تاركين أموالهم و عقارهم و متاعهم ، فرد عليهم : ” ألا ترضون يا معشر الأوس أن يحكم فيكم رجل منكم قالوا : بلي ، قال : فذاك سعد بن معاذ / نفسه / ص 586 ” . و حكم سعد على حلفائه اليهود القرظيين الذين أصبحوا ( سابقين ) ، بحكم شديد القسوة ، قال : ” إني أحكم فيهم بأن يقتل الرجال و تقسم الأموال و تسبي الذراري و النساء ، فقال رسول الله لسعد : حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبعة أرقعة / نفسه / ص 587 ، 588 ” .
و من ثم يكشف الطبري سر الخنادق بسوق المدينة حيث أمر النبي بذبح القرظيين و كل من أنبت شعر عانته منهم من صبية صغار على تلك الخنادق ، ” فضرب أعناقهم في تلك الخنادق ، يخرج إليه إرسالاً ، و فيهم عدو الله حيي بن أخطب و كعب بن أسد رأس القوم ، و هم ستمائة أو سبعمائة ، المكثر لهم يقول كانوا نحو الثمانمائة إلى التسعمائة ، . . أتى بعدو الله حيي بن أخطب مجموعة يداه إلى عنقه بجبل ، فلما نظر إلى رسول الله ( ص ) قال له : أما و الله ما لمت نفسي في عداوتك أبداً ، إنه لا بأس بأمر الله ، كتاب الله و قدره ، ملحمة قد كتبت على بني إسرائيل ، ثم جلس فضربت عنقه / نفسه / ص 588 : 593 ” . وبقى من بينهم ذلك الذى سنعرفة بعد ذلك كصحابى ( عطبة القرظى ) الذى نجا من المجزرة لأنهم عندما كشفوا عن عانتة وجدوها لم تنبت شعرا بعد .
و يحدد لنا البهيقي موقع تلك المذبحة الهائلة : ” فتلوا عند دار أبي جهل التي بالبلاط ، و لم تكن يومئذ بلاطاً ، فزعموا أن دماءهم بلغت أحجار الزيت التي كانت بالسوق / دلائل النبوة / ج 4 / ص 20 ” وهوما يعنى أن الخنادق قد امتلأت بالدم ثم فاضت منها حتى أقصى السوق . ليختم القرآن الكريم الملحمة في موجز بليغ يقول : ” ورد الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيراً ، و كفى الله المؤمنين القتال ، و كان الله قوياً عزيزاً . و أنزل الذين ظاهروهم من أهل الكتاب من صياصيهم ( أي حصونهم ) ، و قذف في قلوبهم الرعب ، فريقاً تقتلون ، و تأسرون فريقاً ، و أورثكم أرضهم و ديارهم و أموالهم و أرضاً لم تطؤوها و كان الله على كل شئ قدير / 25 : 27 / الأحزاب ” .
كادت قريظة أن تهم بنقض صحيفة المعاقل ، التي كتبت قهراً و شوكة ، فكان عقابها عملية إفناء كاملة . أليست العقوبة أشد بما لا يقارن بالجرم ؟ في معيار القيم سيكون هذا الإفناء جريمة في حق الإنسانية بمقاييس اليوم و قيم اليوم ، و تكون الكارثة أعظم فداحة لو اعتبرنا ذلك ديناً و قيمة سماوية ، مع ملاحظة كيف نقض السعدان بن معاذ و بن عباده العهد مع غطفان بشديد البساطة ، و كيف نقض سعد بن معاذ عهده مع حليفته و حليفة الأوس قريظة بإصداره حكماً مرعباً شديد الوطأة و بلا شبيه في تاريخ الجزيرة بذات الهدوء والبساطة ، إخلاصاً لإسلامه و لنبيه ، و هو ما تلحظه أيضاً في موقف أبي لبابه الأوس ، مع ملاحظة أخرى في الموقف المبهر في وفاء حيي بن أخطب بعهده لصديقه كعب بن أسعد القرظي بالدخول معه إلى حصنه ، و هو يعلم أن مصيره الموت لا محالة.
على مقياس القيم كما نفهمها لابد أن يحتسب ما حدث خروج على كل القيم الإنسانية ، لصالح قيماً تحتسب دينية بينما كانت سياسية و عسكرية لها ظرفها التاريخي ، و رغم أن ما حدث كان مجزرة بكل المعاني ، إلا أن التاريخ يمتلئ بالمجازر ، و الأهم كان في النتائج ، و قد حققت مجزرة قريظة بعد ذلك دورها في إرهاب الجزيرة كلها بعدما تسامعت بخبرها ، مما سرع عملية الخضوع الطوعي لسيادة المسلمين ، كان سعد بن معاذ يرنو إلى المستقبل و هو يصدر حكمه المخيف و المرهب لكل جنبات الجزيرة مدوياً رجع صداة هلعا أينما سمع . .
إن قيمة الوفاء بالعهد مع ظروف قريظة تفقد معناها القيمي ، كما سبق و فقدته مع ظروف النضير ، و إذا ما استند مسلم اليوم إلى قيمة الوفاء بالعهد فلأنها قيمة عظيمة في ذاتها ، و ليست لأنها مقرراً إسلامياً ، لأنها في واقع الحال لم تكن كذلك ، و الإصرار على نسبة كل شأن رفيع وصلت إليه الإنسانية ، إلى الإسلام قبل أربعة عشر قرناً و ربع القرن ، فيه ظلم لواقعنا و ظلم للإسلام في آن معاً . إن القيم هي ما يتوافق عليه الضمير العام في زمن و مكان بذاته و مجتمع بخصوصيته و قد تسمو فيتوافق عليها الضمير العالمي كله ، أما الدين فهو أوامر و نواهي لا علاقة لها بمفهوم القيم ، فالقيمة تفترض حرية الاختيار بين بدائل مع فرز بينها و تجنيب لاختيار القيمة الأفضل ، بينما الدين فروض و شعائر يحسن احترامها بتركها لزمانها و ليست محل اختيار أو مفاضلة .
و الحرب فعل سياسي ، و السياسة لا تحترم سوى المصالح ، و أعلن النبي ( ص ) ذلك بوضوح ، فهي عملية خداع للآخر ، ليس في السياسة عهود دائمة و لا قيماً إلا إذا وافقت المصلحة ، و لا بأس بنقض القيم في شئون السياسة و الحرب ، لكن إن نقضناها لأن ديننا أباح هذا النقض ، و جعل ما حدث بشأن هذه القيمة في تاريخنا دينا كما قال قرضاوي نتعبد بها ، فهو ما يعني الخروج على معني القيم جميعاً و تدريب النفس و الروح على كسر القيم و تبرير ذلك الكسر بالخداع الشرعي المشروع .
هذا ما كان من الأحداث على واقع الأرض في زمن الدعوة ، و هذا ما كان من تعقيبنا الذي لا يكذب و لا يتجمل ، لكن يعترف بحقيقة الأحداث بهدوء ليتركها لزمانها دون تفعيلها في زماننا ، أما قرضاوي فقد عقب على الغزوة بقوله : ” النبي سامح في الأحيان و قال لقريش اذهبوا فأنتم الطلقاء ، لكنه لم يقل ذلك لبني قريظة ، قبل كده سامحهم فجاؤا و تألبوا عليه و ألبوا العرب عليه ، فلم يكن لهم كلمة ” . لكنه لا يذكر لنا كيف : ( قبل كده سامحهم ) و متى و في أى حادثة ؟ ، و يرى قرضاوي أنهم لأنهم ” لم يكن لهم كلمة ” فقد حقت عليهم العقوبة بالإبادة الشاملة . لكن أخلاقيا أوحتى عسكريا ….. لماذا ؟ .. يقول قرضاوى لافض فوة وذبح كارهوة : ” أحياناً يكون العفو مطلوباً ، و أحياناً يجرئ الظلمة على ظلمهم ، و البغاة على بغيهم / موقع القرضاوي في 29 / 2 / 2008 ” .
و هو ما يعنى إمكانية تكرار الدرس بغض النظر عن قيمة القرضاوي العظمى في الوفاء بالعهد ، لأن العفو قد يؤدى إلى اجتراء المعفو عنهم على العافى ، و أحياناً يجرئ البغاة على تكرار بغيهم ، و لأنه ( أحياناً ) و لأنة ( قد ) ؟ فقد وجب الذبح الشرعى .
د. سيد القمني
2007 / 5 /8