خريطة الإصلاح 6
خريطة الطريق نحو الإصلاح : ( الإسلام و القيم )
6 – قيمة الوفاء بالعهد ( أ . صحيفة المعاقل كنموذج أول ) : _
ما قرأت عملاً حديثاً صادراً في مصر عن فلسفة القيم ، إلا و ابتدأ تصديره بالقيم الإسلامية السامية ، و هو ما يعني أن قيم الآخرين ليست كذلك . و هو أمر متواتر حتى بين بين أهل الفلسفة و علمائها المتخصصين ، تجده يحيلك أولاً إلى قيم الإسلام بالضرورة ، ليعود بعد ذلك معلماً أكاديمياً يشرح القيم الإنسانية ( الإكسيولوجية )، ناسياً أنه لم يعد هناك محل لبحث جديد ، بعدما أثبت للقيم الإسلامية وحدها في تصديره ، كل الإيجابيات التامة الجامعة المانعة .
تجدهم في علم الاجتماع قد صاروا كذلك ، في الفيزياء ( سبحان الله ) و صحة القوانين العلمية ( بمشيئة الله ) ، و الجغرافيا و الفلك ، وباء و انتشر ، كتب علم النفس تتصدر باحاتها آيات و أحاديث وردت فيها كلمة النفس عرضاً . حتى الطب لم ينج من ذات المصير ، يبدأ صاحب المرجع الطبي مرجعه بالآيات ” إذا مرضت فهو يشفين ” ، و نقابة أطباء مصر تضعها على ( البادج / الأيقونة / الرمز ) ، و في طب الحمية مرجعاً منتشراً تتصدر صفحته الأولى : ” و كلوا و اشربوا و لا تسرفوا إن الله لا يحب المسرفين ” . و لا تفهم هنا قيمة بعد ذلك لصفحات المرجع الكبير ، مادام إذا مرضت فهو يشفين ؟ ! أسلوب يذكرني بالحانوتية الذين يعملون بمهنة دفن الموتى ، و لافتتهم المشهورة : كل نفس ذائقة الموت !! و لا أى معنى لتوقيع حكومات بلادنا على مواثيق دولية تؤسس لقيم جديدة اكتشفتها الإنسانية و توافقت عليها ، قيم لم يسبق أن وجدت لا في تراثنا الإسلامي و لا في أى دين من الأديان ، بل بعضها يتعارض بالكلية مع ما جاء في هذه الأديان ، كما في حال حقوق الإنسان مثلاً ( حقوق المرأة ، حق الإعتقاد . . . إلخ ) فإذا كانت قيم الإسلام قد جمعت فأوعبت كل القيم الإيجابية حتى نهاية الأزمان ، فلماذا لا تعرض حكوماتنا قيمنا هذه على الامم المتحدة أثناء المناقشة في الهيئة الأممية ، خاصة أنه عالم حر يناقش و يستمع و يقبل و يرفض عن بينة و قرار ديمقراطي ، و هو لن يرفض قيمنا إن رأها أرقى من قيمه ، فقيم المواثيق الدولية شاركت فيها كل الإنسانية و قالت تجربتها و كلمتها حتى تم وجوبها وثيقة دولية ، و بنيت لها نصوص قانونية لحماية هذه القيم وصونها .
أم أن حكوماتنا تعلم سلفاً أن في قيمنا ما يعتورها بمقاييس اليوم الأخلاقية ؟ يبدو أن حكوماتنا توقع الاتفاقات الدولية ( تقية ) أى كذباً و مداراة خوفاً و خزياً و عاراً، أى تعلن عكس ما تبطن ، و يبدو أن تلك هي الحقيقة الصادقة الصادمة . وخير نماذج التقية الورعة ، استقبال شيخ الأزهرالدكتور سيد طنطاوي للجنة الحريات الدينية ، و توقيع الدكتور فوزي الزفزاف على العهد الدولي للحقوق الدينية ، بإشراف د . سيد طنطاوي الشيخ الأكبر و بحضور وفد الاتفاقية ، ثم إعلان الشيخ الأكبر فيما بعد أنه لا سمع بهذه الوثيقة و لا يعلم عنها شيئاً. رغم أن الحدث موثق بالصور التذكارية لحفل التوقيع بمكتب الشيخ الأكبر ، و رغم احتساب الفقهاء أن قيمة الوفاء بالعهد اختراع إسلامي قح .
شيخ أكبر آخر هو مفتى الديار المصرية الدكتور على جمعة أجاب بالإيجاب القاطع في أمريكا عن سؤال ، حول حق المسلم ترك الإسلام ، و بمجرد عودته قامت دار الإفتاء كلها تؤكد أن كلام المفتى ثم تحريفه عن معناه كعادة الضالين و المغضوب عليهم في التحريف ، لأن الإسلام لا يسمح بخروج المسلم من دينه بالمطلق .
هذه مشاكل فضائحية تحدث علناً دون أى تحرج ، فأى حديث هذا عن القيم الأخلاقية ؟ و أى قيمة في التوقيع حرجاً أو جبناً ثم الرجوع الكاذب و المخالف ؟
المشكلة تصبح أعوص مع تسليمنا أن القيم الموجبة كلها جاءت في إسلامنا ، لأن هذا التسليم يعني ضمنياً و يقيناً رفض قيم الحداثة و القيم الحقوقية الإنسانية و قيم العلوم الغربية كلها ، مما يعني خروجنا برغبتنا من التاريخ و من المستقبل ، لأن ما عندهم هناك هو الباقيات الصالحات و ليست هنا . رؤيتنا تجعل كل ما حققه العالم الحر هو أدنى قيمياً و خلقياً و علمياً ، ألا ترونهم يعضون علينا الأنامل حسداً لما نحن فيه من سعادة و نعيم مقيم ؟ ! إنهم يحسدوننا على إسلامنا و مع ذلك يكتفون بالحسد و المؤامرات و لا يدخلون إلى سعادته و لا يختارون نعيمه و جنته و قيمه ، نكاية فيه ! ! إن الاعتقاد بكلانية القيم إيمانياً يعنى ضمن ما يعني ، أن الاعتقاد برقي المجتمع الغربي هو إنكار لمعلوم من الدين بالضرورة ! ! و هو ما يترتب عليه عدم رؤية ما بيد هذه المجتمعات من وسائل رقي و تقدم و الاكتفاء بالذات المريضة .
سنضطر باستمرار إلى الرجوع إلى القطب المرجعي الفقهي الشيخ قرضاوي عافاه الله مما هو فيه ، و هي دعوة صادقة مخلصة ، باعتباره معتمداً من الحكومات و الجماعات الإسلامية بكافة أطيافها ، و من الإخوان ، و من الأزهر ، و من قاطعى الرقاب ، و هو من يركز حديثه الدائم حول الفارق الأساسي بين المسلم و غير المسلم ، المتمثل في القيم الأخلاقية التي هي السمة و العلامة العظمي لرقي الإسلام و سماويته . و يقيم الشيخ هذه المسلمة على آيات قرآنية و أحاديث نبوية و أحداث وقعت إبان الدعوة الإسلامية و بعدها ، بادئاً بأهم تلك القيم و هي ( الوفاء بالعهد ) ، و أوفوا بالعهود إن العهد كان مسؤولا . ليورد النص القرآني الذي يؤكد هذه القيمة ” ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق و المغرب ، و لكن البر من آمن بالله و اليوم الآخر و الملائكة و الكتاب و النبيين ، و أتى المال على حبه ذوي القربي و اليتامي و المساكين و أبن السبيل ، و السائلين و في الرقاب ، و أقام الصلاة و آتى الزكاة ، و الموفون بعهودهم إذا عاهدوا ، و الصابرين في الضراء و حين البأس ، أولئك الذين صدقوا ، و أولئك هم المتقون / 77 / البقرة ” .
ثم يعقب الشيخ بأن الله ارتقى بقيمة الوفاء بالعهد إلى درجة وضعها وضع بقية العبادات المفروضة كالصلاة و الزكاة .
في التاريخ الإسلامي و خاصة زمن التأسيس ( زمن الدعوة ) أحداث جسام متتالية ، يمكن البحث فيها عن قيمة ( الوفاء بالعهد ) ، و هي واحدة من القيم التي أولدها بين العرب العصر الجاهلي الثاني قبل الدعوة ، و المتوسط بينها و بين الجاهلية الأولى ، و هو العصر الذي تعود إليه مكرمات و مفاخر العرب القيمية الأخلاقية ، و هو التوليد الذي وقفت وراءه مجموعة من الأسباب الموضوعية على الأرض حينذاك .
تعد قيمة ( الوفاء بالعهد ) إحدى المظاهر المتعددة التي تتجلي من خلالها قيمة أعظم ، هي قيمة ( الأمانة ) . و كلاهما ( الأمانة ) و تجليها في ( الوفاء بالعهد ) ، لم تكن شيئاً معلوماً في الجاهلية الأولى التي كانت قسوة و شظف و تركت أثرها أخاديداً و بثوراً أبدية في وجه العربي القيمي . كانت البيئة شحيحة ، بيئة ندرة و جوع كافر ، و مناخ أشد كفراً ، لذلك كان القتال حتى الفناء أو الإفناء في صراع صفري دائب على مواطن الماء و الكلأ حتى ينضب ، فتتحرك القبائل إلى موطن غيرة في عيالة و طفيلية شديدة على الطبيعة و منتجها الشحيح . في مثل هذه البيئة تكون معانى القيم شديدة الاختلاف عما نفهمة منها اليوم ، لأن القيم الأخلاقية التى يجب أن تسود هي ما يضمن الحياة في بيئة لا ترحم ، لذلك يكون الحديث عن الرحمة بمفاهيم أى زمان أو مكان آخر مختلفاً بالكلية عن مكان و زمان الجاهلية الأولى .
و لا يكون هناك معنى لكلمة ( أمانة ) و ما يترتب عليها ، فالأمانة في العربية أصلاً من الأمن و الأمان ، و هما لا يتوفران بالأمانة بل القوة القتالية البحت المجردة التى تحقق الأمن .
و تحدث أحداث عالمية ذات تأثير واسع ، ستؤدي سريعاً إلى تغير وجه التاريخ و الجغرافيا معاً ، عندما تدخل الإمبراطوريتان الرومية و الكسروية حربهما السبعونية ، لتطارد كل منهما الأخرى في أقاصي الأرض ، عدا مكان واحد لم يرغب فيه أياً منهما ، هو فيافي جزيرة العرب . مما هيأ للجزيرة فرصة القيام بأعباء تجارة العالم بعد قطعها في البحار ، من سواحل اليمن إلى سواحل الشام و بالعكس في رحلتي الشتاء و الصيف . و هي التجارة التى قامت عليها قبيلة قريش محولة مكة من مجرد استراحة على الطريق إلى مدينة و حاضرة ذات أسواق كبري ، و شارك كل عرب الجزيرة في القوافل التجارية بأموالهم ، و حرسوا طرق التجارة حرصاً على أموالهم و منافعهم ، فكان أن نشأت قيماً هي فرز زمنها و ظروفه ، و أصبحت ( الأمانة ) القيمة الأولى الواجب احترامها حفاظاً على سيولة الطريق التجاري و ضمنها الوفاء بالعهد ، فكتبت قريش عهود الإيلاف للقبائل و الملوك برعاية الطريق ، و جعل مكة لمن دخلها مكان أمن و عبادة و فرح و عربدة و سعادة و تجارة و لهو و جنس يأمن فيه الجميع من الجميع في أشهر حرم معلومات توافقوا عليها هى شهور السفر والتجارة . و تم التأكيد على الوفاء بالعهود التى كتبتها قريش مع القبائل الضاربة علي الطريق لتضمن عدم اعتدائها على القوافل التجارية ، نظير عهد مقابل هو دفع جعالات من دخل القوافل لهذه القبائل المتناثرة بطول الطريق التجاري ، كان عهداً تجارياً بحتاً ، حتى القيمة مدفوعة الثمن . لذلك كان التأخير في دفع تلك الجعالات يقابل مباشرة بقطع الطريق حتى تفي قريش و كبار التجار بالتزاماتهم . و كان أن يرأس أحدهم قافلة فيتلاعب بأسهم الناس فيها ، فهو ما كان يعني دمار و بوار و خراب تلك التجارة ، لذلك حرص التجار من قواد القوافل الكبرى على حيازة لقب ( الصادق الأمين ) ، ليأمن الناس على أموالهم و تسيل التجارة و تفيض على الجميع بنفعها .
لكن العقائد الدينية لم تتمكن من التخلص من بدائية العبادة ، التي كان يتم فيها التقرب إلى الألهة بالقرابين البشرية من الأطفال الإناث ( في ظاهرة الوأد ) و الذكور ( كما في حال عبد الله أب النبي محمد – ص – الذي افتداه أبوه عبد المطلب من الألهة بمائة من النياق ) ، حتى جاء الإسلام و نقل العرب نقلة دينية ألغت و جرمت و أنهت القربان البشري في الطفولة ، و جعلته قرباناً يحدث عن قناعة عاقلة للشخص الراشد في عقيدة الجهاد .
و قد علمنا أن الإسلام قد عاد بالعرب إلى بعض الجاهلية الأولى مضطراً لحسابات ظروف موضوعية ستأتي بمكانها من هذا البحث ، عندما عاد إلى شرعية الغزو و السلب و النهب و الغنم ، ( و كلها مصطلحات إسلامية بالكتب الأمهات في إشارتها للفعل العسكري الجهادي زمن الدعوة )، و هو ما حاصر قريشا اقتصادياً و أصابها في مقتل حتى سقطت ثمرة ناضجة بيد القوة الإسلامية الطالعة ، كانت الغاية بحاجة إلى تلك الوسيلة ، لذلك جعلها الإسلام وسيلة مشروعة ، بل و مطلوبة بل و مأجورة و مثابة أعظم الثواب ، و قال النبي بوضوح شديد ” أُحلت لنا الغنائم و لم تحل لأحد من قبلنا ، و ذلك أن الله تعالى رأى عجزنا و ضعفنا فوهبها لنا / متفق عليه بكل الصحاح ” ، بل و كان للنبى خمس ما يغنم المسلمون في معاركهم ” إنما غنمتم من شئ فإن لله خمسه و للرسول / قرآن كريم ” ، و كان القرآن شديد الدقة و الوضوح في العودة إلى زمن الغزو و السلب و النهب و الغنم بقول الله تعالى للمسلمين : ” فكلوا مما غنمتم طيباً حلالاً ” .
و هو الأمر الذي يترتب عليه إعادة السؤال حول قيمة الوفاء بالعهد ، و هل أستمرت في الواقع الفعلي للمسلمين بعد ظهور الإسلام ، أم تراجعت مع ما تراجع من قيم الجاهلية الثانية إلى قيم الجاهلية الأولى ؟ نطرح هنا نماذج ثلاث حدثت إبان وجود النبي ( ص ) في يثرب .
النوذج الأول : _
نقض عهد صحيفة المعاقل : _
أول نقض رسمي لعقد اجتماعي و عهد سياسي مكتوب : _
يقول البيهقي : ” و أذل الله بوقعة بدر رقاب المشركين و المنافقين ، فلم يبق في المدينة منافق و لا يهودي إلا و هو خاضع عنقه ، لوقعة بدر / الدلائل / ج 3 / ص 117 ” .
بعد النصر البدري المؤزر و حصول المسلمين على غنائم عظيمة خاصة السلاح ، استرسل الوحي يقول : ” و أعدوا لهم ما استطعتم من قوة و من رباط الخيل ترهبون به عدو الله و عدوكم و آخرين من دونهم لا تعلمونهم ، الله يعلمهم / 60 / الأنفال “.
و عدو الله و عدو المسلمين معروف هم ملأ مكة ، أما الآخرين الذين لا يعلمهم المسلمون ، فهو ما أوضحته الأحداث التالية ابتداء بنداء النبي ( ص ) لرجاله : ” من ظفرتم به من رجال يهود فاقتلوه / السهيلي / الروض الأنف / مج 3 / ص 164 ” ، في منعطف تاريخي مفصلي جاءت مفاصله في آيات تنسخ حرية الاعتقاد ، لتنهي العمل بآيات من قبيل ” لكم دينكم و لي دين / 6 الكافرون ” ، و تم نسخ الصفح الجميل و الصبر الأجمل ، بقانون جديد حاسم هو ” إن الدين عند الله الإسلام / 19 / آل عمران ” ( أنظر نواسخ القرآن بأى مصدر للنواسخ / متفق عليه ) .
و تتالى الأحداث سراعاً ، فيروي الزهري عن عروة ” نزل جبريل على رسول الله ( ص ) بهذه الآية : و إما تخافن من قوم خيانة ، فأنبذ إليهم على سواء إن الله لا يحب الخائنين ، فقال رسول الله ( ص ) : أنا أخاف من بني قينقاع ( أحد القبائل اليهودية الثلاث بيثرب ) ، فسار إليهم و لوائه بيد حمزة / ابن سيد الناس ، عيون الأثر ، ج 1 ، ص 353 ” . و انجلت غزوة قينقاع عن طردهم من يثرب كأول قبائل يهود يتم إجلاؤها ، بعد أن استولى المسلمون على كراعهم و أسلحتهم و أرضهم ، مما زاد في قوة المسلمين العسكرية و راحتهم الإقتصادية .
و عندما رأت قريش نفسها محاصرة في رزقها بعد أن قطع المسلمون عليها طريق الإيلاف الشامي ، أجمعت على قتال محمداً و ذلك في الوقعة المعروفة بوقعة أحد التى انهزم فيها المسلمون هزيمة مريرة ، أدت بالبيهقي لتصوير حال يثرب بعد الهزيمة بقوله : ” و فارت المدينة بالنفاق فور المرجل / البيهقي / دلائل النبوة / ج 3 / ص 216 ” .
و ترنحت الدولة الطالعة ، فتم اتخاذ إجراءات سريعة حاسمة عنيفة متتالية لا تهدأ لإصلاح ما أفسدته أحد ، بالقضاء على رؤوس المعارضة ( المنافقين ) فتدحرجت رؤوس كبار القوم ، تم اغتيالهم ليلاً مثل رأس ( سلام بن أبي الحقيق ) المعروف بأبي رافع ، و ( أبي عفك عمرو بن عوف ) ، و ( عصماء بنت مروان ) عقيلة بني خطمة ، و ( خالد بن سفيان ) سيد هذيل ، و ( فاطمة بنت ربيعة ) زعيمة فزارة و محل شرفها ( أنظر ابن حبيب في محبره ص 117 ، و ابن كثير في البداية ج 4 ص 39 أو 142 ، و ابن سيد الناس في عيون الأثر ج 2 ص 145 ، السهيلي / شرح السيره / مج 4 / ص 244 ، 245 ، و الطبري في تاريخه ج 3 في ص 156 ) ، إعلانا ً عن أن السيف المحمدي و إن كسرت منه الذؤابة في أحد ، فإنه مازال قوياً مقتدراً و عنيفاً ، إعلاناً عن الإصرار على استدامة الدولة الناشئة مهما كلف ذلك من أرواح .
و يحكي ابن كثير أحداث العام الثاني للهجرة بقوله : إن فيها ” حولت القبلة . . و فرض صيام رمضان . . و زكاة النصب و زكاة الفطر ، و فيها خضع المشركون من أهل يثرب و اليهود . . صانعوا المسلمين و أظهروا الإسلام و هم في الباطن منافقون . . قال ابن جرير : و فيها كتب الرسول ( ص ) صحيفة المعاقل ، و كانت معلقة بسيفه ” .
و ابن كثير إذ يوقت الصحيفة بنهاية العام الثاني للهجرة ، فهو بذلك يختلف عن رواة آخرين قالوا أنها كانت أول عمل للنبي عند وصوله يثرب مهاجراً من مكة . هذا علماً أن ابن كثير نفسه يثير التناقض بذلك مع ما سبق له أن ذهب إليه مع الجمهرة ، بأن صحيفة المعاقل قد تمت كتابتها بين أهل يثرب جميعاً و بين المسلمين المهاجرين عند وصول النبي يثرب ، حيث تبدو يثرب جميعاً قد عمها الإيمان ، و يظهر فيها النبي سيداً مقبولاً من الجميع عن رضى غير واضح الأسباب بما فيهم اليهود ، فكتبوا معه صحيفة المعاقل التي ترد كل أمر في يثرب إلى النبي وحده . و هو كله ما يخالف و يناقض واقع الأحداث ، ذلك الواقع الذي يحيلنا إلى النبي و أتباعه المكيين مهاجريين ضعاف متخفين هاربين من بلادهم ، و من بين أهله بالعصب ( أعمامه ) إلى حمى ( رحمة ) أخواله اليثاربة من بني النجار الخزرجيين ، و هو ما يحيط الصورة التي رسمتها كتب الأخبار و السير للاستقبال الهائل ، و طلع البدر علينا ، و الطاعة الكاملة من الجميع لسيدهم الغريب المكي ، بكثير من الشك و عدم المصداقية ، حيث ذات المصادر تؤكد أن غالب أهل يثرب كانوا يهوداً أو وثنيين ، و إن كثيرا ممن دخل منهم حلف المسلمين كان منافقاً أو دسيسة ، لذلك رجع ابن كثير عما قال في بداية الفصل ليؤخر زمن صحيفة المعاقل إلى السنة الثانية للهجرة ، بحيث تبدو الأحداث أكثر منطقية مع مقدماتها ، فاختار الزمن الذي تحول فيه المسلمون إلى قوة قادرة على فرض هيمنتها .
و لمزيد من التدقيق نجد غزوة قينقاع لم يرد فيها أية إشارة لتعاقد المسلمين مع اليهود ، و لم نقرأ فيها ما يشير إلى منابذة قينقاع للنبي بنقضه للعهود ، كما حدث في الوقائع التالية مع قبيلتي النضير و قريظة ، و هو ما يشير إلى أنه حتى غزوة قينقاع لم تكن هناك عهود ولم تكن صحيفة المعاقل قد وجدت بعد .
و إن هذا الإختلاف و التناقض يدفع الباحث إلى محاولة جديدة للتزمين الأوفق لصحيفة المعاقل ، حيث نعتقد أن تلك الصحيفة قد كتبت ضمن مجموعة الإجراءات الحاسمة مع تراجعات محسوبة ، و التي تمت بعد هزيمة المسلمين في أحد .
معلوم أن هزيمة أحد هزت معنويات المسلمين بعنف حتى نادي المهاجرون بالعودة إلى قريش و نفض أيديهم من الموضوع كله ( البيهقي / الدلائل ج 3 ص 21 ) بينما قال صحابة آخرون من الأنصار اليثاربة : ” لو كان من الأمر شئ ما قتلنا ها هنا / 154 / آل عمران ” و هو ما يعني إنكارهم الوحي و الدين معاً . لكن أحد لم تقض على مخزون السلاح البدري الذي تم استخدامه في حملة المسلمين الأولى على اليهود ( قينقاع ) و انتهت بمزيد من قوة المسلمين بعد استيلائهم على ممتلكات قينقاع ، ثم في حملتهم الثانية على اليهود ، و كانت على بني النضير ، و تؤكد كتبنا ” أنها قد حدثت بعد وقعة سبقتها هي وقعة بئر معونة / ابن كثير / البداية / ج 4 / ص 76 ” . و نحن نعلم من ذات الكتب أن بئر معونة قد وقعت بعد أُحد بزمن ، و بعد غزوة أخرى أسبق هي وقعة الرجيع التي وقتها الواقدي في صفر سنة أربع للهجرة . و نعلم أيضاً أن بني النضير قد نابذوا النبي في تلك الوقعة بنقضه للعهود و المواثيق ، مما يشير إلى أن صحيفة المعاقل كانت قد عقدت قبل غزوة النضير المشهورة ، حتى نفهم منابذتهم له بنقض العهود ، و أنها تمت في الزمن الواقع بين غزوتي أُحد و النضير ، و هو ما يمكن الكشف عنه في قراءة البيهقي للحكاية إذ يقول : ” اجتمعت بنو النضير بالغدر ، فأرسلوا إلى النبي ص : أن أخرج إلينا في ثلاثين من أصحابك ، و ليخرج منا ثلاثون حبراً ، حتى نلتقي بمكان المنصف فيسمعوا منك ، فإن صدقوا و آمنوا بك آمنا بك ، فلما كان الغد ، غدا عليهم رسول الله بالكتائب فحصرهم فقال لهم : إنكم و الله لا تأمنون عندي إلا بعهد تعاهدوني عليه ، فأبوا أن يعطوه عهداً ، فقاتلهم يومهم هذا ، فعاهدوه ، ثم غدا على بني قريظة بالكتائب و دعاهم إلى أن يعاهدوه ، فعاهدوه فانصرف عنهم / دلائل النبوة / ج 3 / ص 179 “.
و من الخبر نفهم أن يهود النضير أرادت وضع حد لمشكلة علاقتهم بالمسلمين ، إما بالدخول في الإسلام بعد جدل و حوار يثبت فيه الإسلام جدارته عن اليهودية بالدليل و البرهان ، أو بعدم الدخول فيه إذا لم يقتنعوا به مع إيجاد صيغة سلامية للتعايش و تهدئة للموقف المتوتر بعد قطع الرؤوس من أشراف اليهود . و أن يتم ذلك بالجدل و الحوار و المناظرة ، لكن النبي رأي أن يتعامل معهم بمنطق آخر فجرد عليهم الكتائب حتى نزلت النضير على عهد مكتوب ، ثم رضت قريظة بالعهد دون قتال ، و لا نعلم عهوداً تمت مع اليهود سوى صحيفة المعاقل .
و عليه فإن المعاقل قد تمت فيما نذهب إليه ( عن محاولة اجتهادية لا قطعية ) ، ضمن سلسلة الإجراءات السريعة الحاسمة ، لإصلاح ما أفسدت أحد و علاج آثارها لرفع روح المسلمين المعنوية ، و بداية اهتمام واضح بالجبهة الداخلية لتأمينها اولاً قبل معارك الغزو ، و ضمن هذا التأمين قدم النبي تنازلاً تراجعياً وضح في النص ” لليهود دينهم و للمسلمين دينهم / مجموعة الوثائق السياسية للعهد النبوي ، 1985 / ص 61 ” .
لكن ما حققته الصحيفة من إيجابيات هو أنها حولت المسلمين من لاجئين إلى مواطنين على ذات درجة أهل يثرب ، ثم إعادة الأمر كله لسيد المدينة الجديد الذي غدا بلا منافس بعد قطع رؤوس سراة القوم و سادتهم . و لعل في تعليق الرسول ( ص ) للصحيفة بسيفه رمزاً واضحاً يحمل معنى السلام القائم على القوة و الإقتدار . أما أهم بنود الصحيفة فهي تلك التي تقول في مفتتحها : ” هذا كتاب من محمد النبي الأمي ” و المقصود نبي الأميين ( جمع أمم ) أى نبي الأمم أى ( الجوييم ) أى غير اليهود . و المفتتح يشير إلى المعاقل كفرمان صادر من سلطة النبي السيادية ، فأطراف الصحيفة لم تكن متكافئة ، فهو سلام مفروض فرضاً ، أو هي بمثابة كتاب أمان من النبي ، أو عقد اجتماعي مفروض ، مع فرض صفة النبوة للنبي في الوثيقة الرسمية ، لتعني اعترافهم بذلك راغمين و لو لم يؤمنوا ، و هو ما يعني عند العربي الإذلال بإحناء الرأس لأمر لا يعتقد فيه قهراً ، لذلك كثيراً ما كان الإسلام يفرق بين المسلم و المؤمن ، فالمؤمن هو صادق اليقين بعكس من أسلم خوفاً أو رشوة بتأليف قلبه ، و قد جاءت الصحيفة متجاوبة مع رغبة اليهود و بقية مشركي يثرب في الأمان بعدما اجتز السيف الإسلامي رؤوس سادتهم .
أن ابرز المفاصل في الصحيفة فهي : ” و إنكم مهما اختلفتم في شئ ، فإن مرده إلى الله عز و جل ، و إلى محمد ( ص ) ” ، هي خطاب من سيد لمسود ” إنكم ” ، و ليست ( نحن الموقعون ) ، و الأمر الأشد دلالة قانون بالصحيفة يقول : ” و إن بطانة اليهود كأنفسهم ، و إنه لا يخرج أحد منهم إلا بإذن محمد . . ، و إن يثرب حرام جوفها لأهل هذه الصحيفة ، و أنه ما كان بين أهل هذه الصحيفة من حدث أو شجار يخاف فساده ، فإن مرده إلى الله و إلى محمد رسول الله / ابن كثير / البداية / ج 3 / ص 223 ، 224 ” .
و بين الأفخاذ القبلية التي تم تعدادها كأطراف للمعاقل ، تم وضع المهاجرين كأبناء البلد ، و كفخذ من الأفخاذ البشرية الأصيلة فيها ، بل أن الصحيفة أكسبت المهاجرين ليس الوجود الشرعي فقط و لا المواطنة عوضاً عن اللجؤ فقط ، بل غدا الأنصار أنفسهم إزاء المهاجرين تابعين لا مجيرين و متبوعين .
الأهم من كل هذا أنه لابد من افتراض حدوث وقعتين ضد بني النضير لا وقعة واحدة هي المشهورة ، وقعة أولى حاصرهم فيها المسلمون و فرضوا عليهم صحيفة المعاقل ، تلاها بعد ذلك الوقعة المشهورة في تاريخنا و التي تم بموجبها إجلائهم عن يثرب و الاستيلاء على ممتلكاتهم .
و تتالى الأحداث ، فيقتل المسلمون بعض الأعراب الوثنيين من بني عامر عرضاًو خطأ حيث كان بينهم و بين النبي عهد خضوع مقابل السلام ، فقاموا يطلبون من النبي دية القتلي إلتزاماً بالسلام و عدم إعلان الحرب .
هنا يحكي لنا الطبري أن النبي ذهب إلى بني النضير يطلب منهم مساعدته في أداء دية القتيلين العامريين ؟ ! ، يقول الطبري : ” فانطلق رسول الله ( ص ) إلى قباء ، ثم مال إلى بني النضير مستعيناً بهما في ديتهما ، و معه نفر من المهاجرين و الأنصار و فيهم أبو بكر و عمر و علي و أسيد بن حضير ، فلما أتاهم الرسول يستعينهم في دية ذلك القتيلين ، قالوا : نعم يا أبا لقاسم نعينك على ما أحببت ، مما استعنت بنا عليه / الطبرى / التاريخ / ج 2 / ص 551 ” .
و هكذا لم تسوف النضير و لم تماطل ، و يبدو أنها قدرت الأمر بعمق ، فمازال خروج قينقاع المهين ماثلاً ، و هناك صحيفة معاقل تضمن لهم قدراً من سلام لا يرغبون غيره ، مع مسلسل اغتيال رجالها المقدمين ، ناهيك عن معرفتها أن المسلمين قد غدوا مقتدرين مالياً على أداء مثل تلك الديات بعد الإستيلاء على ممتلكات قينقاع و أموال فك أسرى بدر من المكيين ، و من ثم كانت الحكمة تقتضي تلك الإجابة العاقلة بحيث لا يعطون أى فرصة لنقض صحيفة المعاقل التى لم يمض على عقدها سوى ستة أشهر .
و يتابع الطبرى يقول : ” أن يهود النضير عندما أجابوا النبي ( ص )إلى ما طلب . . قام النبي و قال لأصحابه : لا تبرحوا حتى آتيكم ، و خرج راجعاً إلى المدينة ، فلما استلبث رسول الله ( ص ) اصحابه ، قاموا في طلبه ، فلقوا رجلاً مقبلاً من المدينة ، فسألوه عنه ، فقال : رأيته داخلاً المدينة ، فأقبل أصحاب رسول الله ( ص ) حتى انتهوا إليه . . فقالوا : يا رسول الله انتظرناك و مضيت ، فقال : يهود همت بقتلي و أخبرنيه الله عز و جل / الطبري / التاريخ / ج 2 / ص 551 ، 552 ” .
و يشرح ابن إسحاق في سيرته : ” فأتى رسول الله الخبر من السماء بما أراد القوم ، فقام و خرج عائداً إلى المدينة ” .
و لم يكن هناك سوى رد واحد على خبر السماء ، فقد هموا بارتكاب الخيانة ، و أن الله قد علم ذلك ، فأرسل النبي لهم : أخرجوا من بلدي ؟ ! فلا تساكنونى بها و قد هممتم بما هممتم به من الغدر ، و قد أجلتكم عشراً ، فمن رُئي بعد ذلك ضربت عنقه / ابن سعد / الطبقات / مج 2 / ج 1 / ص 41 ” .
كانت اليهود تعتقد أن يثرب مدينتها منذ قرون مضت ، فإذ بها قد أصبحت مدينة رسول الله ، و زاد النكاية في اختيار حامل هذه الرسالة للنضير ، كان حليف النضير الأوسي ( محمد بن مسلمة ) ، حتى تساءلت النضير عن حلفها مع الأوس و عقدها المتين قبل دخول الأوس في الإسلام ، قائلة لمحمد بن مسلمة : ” يا محمد ما كنا نرى أن يأتى بهذا رجل من الأوس ، فقال محمد : تغيرت القلوب / البيهقي / الدلائل / ج 3 / ص 360 ” ، أو بقوله في الطبري : ” تغيرت القلوب ، و محا الإسلام العهود / التاريخ ، ج 2 / ص 552 ” ، فكان ردهم محمولاً إلى النبي مع محمد ابن مسلمة : “إنا لا نخرج من ديارنا فأصنع ما بدالك ” . و يقول ابن كثير ” و حمى حييي ابن أخطب ( زعيم النضير ) ، و بعثوا إلى رسول الله ( ص ) أنهم لا يخرجون ، و نابذوه بنقض العهود / ج 4 / ص 77 ” . هذا بينما فهمت القبيلة اليهودية اليثربية الثالثة و الأخيرة قريظة ما يحدث ، فالتزمت بنود صحيفة المعاقل ، و هو ما يقول بن سعد في تقرير واضح : ” و اعتزلتهم قريظة فلم تعنهم / نفس الموضع ” ، و أعلن زعيم قريظة ( كعب بن أسد ) : ” لا ينقض العهد رجل من بني قريظة و أنا حي ” . و يحكى أن رأساً من رؤوس النضير هو سلام بن شكم قال لرفيقه حييي بن أخطب : ” يا حييي إقبل هذا الذي قال محمد قبل أن تقبل ما هو شر منه ، قال : و ما هو شر منه ؟ قال : أخذ الأموال و سبي الذرية و قتل المقاتلة ، فأبي حييي و أرسل إلى رسول الله ( ص) : إننا لا نريم دارنا فأصنع ما بدا لك ، فكبر رسول الله ( ص ) و كبر المسلمون معه و قال : حاربت يهود ” ، أى أعلنت اليهود نقض الصحيفة بإعلانها الحرب على المسلمين.
و انتهى حصار النضير بأن ” صالحوه على أن يحقن دماءهم و له الأموال و الحلقة / أى السلاح / الطبرى / ج 2 / ص 553 ” . و وافق النبي ( ص ) ، و أمر بتهجيرهم و أعطى لكل ثلاثة منهم بعيراً واحداً يركبونه حتى لا يمكنهم حمل المتاع . لتختم الآيات الأحداث بقولها : ” سبح لله ما في السماوات و ما في الأرض و هو العزيز الحكيم ، هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب من ديارهم . . و قذف في قلوبهم الرعب . . و ذلك بأنهم شاقوا الله و رسوله ، و من يشاق الله فإن الله شديد العقاب / 1 : 4 الحشر ” .
لاشك سيطرح السؤال نفسه هنا حول قيمة الوفاء بالعهد ؟ و من الذي نقض العهد حقاً ؟ ومن أطاح بهذه القيمة ؟. لاشك نحن كمسلمين نؤمن و نصدق خبر السماء الذي أنبأ نبينا بما كاد اليهود يهمون به لقتله ، و نحن لم نسمع خبر السماء ، لكننا عن يقين كامل نصدقه لأن ناقله هو خير البرية الصادق الأمين ، لكن غير المسلم سيقرأ الأحداث قراءة أخرى خاصة أن قيمة الوفاء بالعهد قيمة إنسانية لا تخص المسلمين وحدهم ، فهم لن يصدقوا خبر السماء مثلنا بعد أن ختم الله على قلوبهم أكنة و لم يفتح بصيرتهم ، سيقرأون الوقائع كما سردتها أمهات كتبنا الإسلامية المعتمدة ، وسيعلنون مع الصحابي محمد بن مسلمة : أن الإسلام يجب العهود ، بمعنى أن الإسلام يجب غيره ، و التسليم له و الاعتقاد في سلامته وحده ، يترتب عليه نقض كل ما يخالفه ، و كم حفل تاريخنا ببطولات لم تقف عند حد نقض العهود بل تمزيق عهد الأسرة تمزيقاً ، يقتل فيها المسلم أخيه ، بل و أبيه ، و كم يتغني بمن كان مثل أبا عبيدة بن الجراح الذي دفعه إخلاصه لدينه إلى ذبح رحمه و عصبه ، قتل أبيه ، و قال له و هو يذبحه : خذها في سبيل الله / أحمد شلبي / السيرة العطرة / ط 12 / ج 1 / ص 375 : 377 ” ، و هو ما أفصح عنه رد المسلمين على نداء النبي بعدم قتل عمه العباس إذا لقوه في بدر الكبرى ، قال أبو حذيفة بن عتبه : ” أنقتل آباءنا و إخواننا و عشيرتنا و نترك العباس ؟ و الله لئن لقيته لألحمنه السيف / ابن سيد الناس / عيون الأثر / ج 1 / ص 310 ” .
ليس هناك عقد في التاريخ كله أعلى درجة في القيمة من كل العهود كعهد الأسرة الذي أسس لقيام المجتمع الإنساني ، لكن الإسلام جب حتى هذا العهد فقتل الإبن أبيه في سبيل الله ، و قتل إخوانه و عشيرته في سبيل الله . كل هذه المعاني تكتسب قيمتها من قدسية الدين لا من مشهد الوقائع على الأرض ، فمشهد الوقائع ينفي عن كل تلك الأحداث أى معنى للقيم بمعناها الإيجابي الذي نفهمه منها اليوم بعد مرور أربعة عشر قرناً تغيرت فيها المفاهيم و اكتسبت القيم دلالات جديدة ، لكنا كمسلمين نصدق و نسلم بضمير مستريح كامل اليقين، و نرى أن لله حكمته في ذلك و التى تخفى علينا ، لكن مثل هذا المأثور سيثير في الضمير المسلم الكثير من المشاكل لو تصورناها صالحة لكل زمان و مكان ، لأن كسر القيم الموضوعية لصالح الربانية ، كان له هدفاً يتعلق بعرب الحجاز و تاريخهم وحدهم ، عندما كان الإسلام يقيم لهم دولة كونفودرالية في حالة خاصة جداً بهم و بزمنهم و بيئتهم و نظمهم ، و لا يتعلق بنا و لا بأوطاننا و لا بتاريخنا الوطنى لا في مصر و لا أفريقيا و لا الشام و لا فارس، لذلك فإن القول بالصلاحية لكل زمان و مكان لابد أن يفضى إلى تناقض صارخ بين ما وصل إليه الإنسان اليوم من قيم ، و بين قيم كانت تناسب بيئتها البدوية القاسية و عاداتها الجافية ، و ظروفها السياسية التي استدعت بتصريح النبي للمسلمين بـ ” المكر و الخديعة ” ، و إلا ما قامت دولة القبائل الاتحادية الإسلامية لعرب الجزيرة و لا توحدت قبائلها تحت رئاسة قريش .
كانت قيماً ضرورية لزمانها ، لكنها في زماننا ستكون خللاً فادحاً في القيم ، و من يستدعها مؤمناً بقدرتها على الفعل الأخلاقي اليوم ، يخرج نفسه عن الإنسانية جميعاً و ما تواضعت عليه من قيم هي الأرقى موضوعياً . و ما قطع رؤوس الأبرياء أمام الكاميرات مع التكبيرات الإسلامية بيد مشايخ الجهاد الزرقاويين ببعيد ، هو عودة قاصرة إلى ظاهر الدين لا محتواة ، و دون معرفة صادقة بظروف الوحي التاريخية ، بل و رفض لهذه التاريخية أصلاً ، و هو ما شكل صورة المسلم القبيحة أمام العالمين ، و هو بالتأكيد ما لا نريد لأنفسنا و لا لديننا ، و لا يبقى سوى أن نؤمن ثم للصلح مع زماننا نسلم أن مثل تلك القيم إنما كانت تخص زمانها و مكانها وحدهما ، و سحبها لزماننا لم يؤد إلا لما نراه من خراب الضمائر ، و دمار الديار ، و فساد و إفساد هائل لم تعرفه بلادنا أبداً قبل صحوتنا . . لا بارك الله فيها .
د. سيد القمني
2007 / 4 /23