فلسفة القيم … نحو إصلاح القيم: ( 1 )
قيمة الحق في الخطاب الفقهي المعاصر
الحق هو أبرز الأسماء الجلالية للذات العلية,فهو الحق مطلقا و الصدق مطلقا و العدل مطلقا , فالحق هو أبو الفضـائل,لذلك وصف الحـق تعـالى به ذاته الكامله,فهو حق لا يصدر عنه إلا حـق و لا يحكـم إلا بحق , لكن كل معاني الحق و ما يترتب عليها من قيـم و ما تلحقها من فضائل , قد غـاب عن مجتمعاتنا حتى صرنا نمارس الكذب على الذات ،و على الاخـرين ،وعلى الدنيا كلـها.في العـلم نكـذب , فـي الاقتصاد نكـذب , في وضع القوانين نكـذب ,وأيضا – وهنا الكارثة – في الدين نكذب,والكذب في الدين يكون كذبا عليه وكذبا على المؤمنين به وكذبا على صاحب الدين جل و علا. وليس أدل عندي من انتشار و باء الكذب و الانحراف عما يلازم قيمة الصدق من فضائل,مما نراه في شارعنا,في اعلامنا , في مساجدنا ،في كنائسنا ،في تعليمنا ،في سياستنا، في خطابنا الديني و هنا العار الحقيقي , وهو مناط البحث هنا .
من الأسماء البوارز في سماء فقهنا المعاصر,الفقيه المرجع الدكتور يوسف القرضاوي ,وهو مثل كل رفاقه لايرى حلا خلاصيا لكبوتنا بين الأمم وتخلفنا المهين,سوى اقامة الدولة الاسلامية التي تطبق شرع الله في كل شأن. فتنال رضا السماء,فتتدخل بقدراتها العجائبية لنصر أمتها التي أخلصت لها الدين هذا بالطبع إن أخلصت لها الدين ,و الدين و الإيمان شيئ لايمكن قياسه أو وزنه بأي معيار ,فلا تستطيع أن تقول أن عندي عشرة كيلو إيمان، أو عشرين متر تقوى,فهذه شئون غير قابلة للقياس ,لذلك يظل شأن الحكم بموعد التدخل الإلهي لإنقاذ أمتة مرهوناً بشيء لايمكن تحديده و لا قياسه, مما يضع تلك المساحة المطاطية رهن الحبس الاحتياطي الدائم لدى مشايخنا,حتى تأتي الطير الأبابيل أو لا تأتي .
في برنامج الشريعة و الحياة/الجزيرة/حلقة الدستور و مرجعية الشريعة , يسأل المذيع الشيخ قرضاوي مستنكرا:” ألا يتعارض القول بالشريعة الاسلامية في دولة بها مسلمين وغير مسلمين , مع مبدأ المساواة في المواطنة ؟! “.
السؤال جد هام ومفصلي , و الإجابة عليه يجب أن تكون جهيرة الوضوح والشفافية,صادقة حاسمة قاطعة ،غير ملتبسة , لأن ما رأيناه مترتبا على تطبيق الشريعة في بلدان بها غير مسلمين ,هو ماحدث في السودان، و في الصومال، و في أفغانستان , وهو ما لا نرجوه لأنفسنا, لذلك نبحث عسانا نجد في قول فقهائنا حلا حقيقيا للمشكلة , لا يدخلنا في حرب أهلية تأكل اليابس و اليابس، فلم يعد لدينا شيأ أخضر لتأكله , خاصة و أن هؤلاء الفقهاء هم من يقدمون أنفسهم كضمير صادق لأمتهم , و أنهم الحافظون لدينها و الأمناء عليه منذ فجر تاريخه.
لقد سبق و أجاب الشيخ في كتبه المنشورة عن هذا السؤال أكثر من مرة,لم يتبدل فيها مرة عن مرة ,وحدد في إجابته مفهوم الإسلام المعتدل لمعنى الوطن والمواطنة , نسمعه إذ يقول في كتابه:(ألإخوان المسلمون):”لقد شجع المستعمرون النعرة الوطنية,هادفين إلى أن يحل الوطن محل الدين,و أن يكون الولاء للوطن لا لله ,وأن يقسم الناس بالوطن لا بالله,يموتوا في سبيل الوطن لافي سبيل الله , حتى قال شوقي:
وجه الكنانة ليس يغضب ربكم***أن تجعلوه كوجهه معبوداّ”.
و يتابع فضيلته شارحا للمسلمين كيف كان الإستعمار الفكري وراء قيام الدولة الوطنية , فهذا الإستعمار الفكري “عمل على تنحية الشريعة من القضاء , و حصرها في الأحوال الشخصية, و فصل بين المدارس المدنية و الدينية. و استطاعت السياسة الاستعمارية أن تحارب شريعة الاسلام كفلسفة حياة ونظام تعامل و دستور يرسم للأفراد حدود المساواة و الحرية … لم ينادي حزب الوفد قط بالإسلام نظاماً للحياة, لكنهم استعملوا الدين وسيلة لتوطيد زعاماتهم “.
المهم ينتهي قرضاوي في هذا الكتاب إلى أن الوطن و الوطنية وفكرة الدولة ذات الحدود التاريخية, هي كلها ” فلسفات علمانية دخيلة عزلت الدين عن الحياة “, و هكذا و بعد أن يقدم لنا سيناريو ها الانهيار المفزع, يبشرنا بمولد مخلص الأمة المنتظر و مبعوث العناية الإلهية ,فيقول : “وفي هذا الجو الغائم والقاتم ولدت دعوة الإخوان المسلمين ,لتكون دعوة للبعث و الإنقاذ كما عبر عنها الإمام حسن البنا /ص 18:22 “.
و إذا ما تساءلنا عما يجمع أبناء الوطن الواحد, إذن , و ماذا عن ولاء المواطن لمواطنيه و لمصالحهم المشتركة, فإن قرضاوي يعطينا إجابة بعيدة بالمرة عن كل المفاهيم السياسية , فهو ينبه إلى أن “الولاء لله و رسوله ,ومن اتخذ الله و ليا , فقد اتخذ عدوه عدواً, ودار الاسلام هي الوطن الاسلامي, وهي بلا رقعة ,فوطن المسلم هو دار الاسلام/ص79,80 من كتابه ملامح المجتمع المسلم” , لينتهي إلى تقرير يصوغه صياغة هي ضد كل مايعني الوطن والمواطنة, فيقول في إيجاز مرعب حقاّ:”إن القومية و الوطنية أو غير ذلك هي من الأوثان /كتابه الإخوان/ص24,25.
إذن هي الحرب الأهلية , هي الصوملة ,هي السودنة , هي اللبننة ,هي الأفغنة ,هي القوقزة , هي حيثما حلت بركات الفكر القرضاوي و رجاله فتوارى الوطن . كل ما لمسته بركاتهم تشظى و انقسم . هذه هي إجابة السؤال عندما نضحي بالوطن من أجل الأيديولوجيا دينية أو طائفية أو عنصرية.
الأكثر تشويقا فى خطاب الشيخ المعتدل قرضاوى، إعلانه أنه يسعى لإقامة دولة إسلامية تعمل بالشريعة، بحسبان “شريعة الإسلام فلسفة حياة و نظام تعامل و دستور يرسم للأفراد حدود المساواة و الحرية”.
ان الشيخ يرذل الدولة الوطنية المدنية و يطلب الدولة ذات المرجعية الشرعية الإسلامية من أجل إقامة المساواة و الحرية. و أول سؤال سيتبادر هنا كيف ستكون هناك مساواة بين مسلم و غير مسلم ، ومثل هذه المساواة تخالف الشريعة نصا و روحا، ليس فقط أحكام الشريعة التى وضعها الفقهاء وضعا ، بل تخالف آيات القرآن الصريحة و الحديث الصحيح . وهو أمر له أسبابه التاريخية ،حيث كان الإسلام يقيم لقبائل العرب الأشتات نظاما سياسيا فى شكل شبيه بالدولة الابتدائية ، و ما كان ممكنا أن تقوم الدولة فى مثل هذه البيئة البدوية المتبدية فى قبائل متقاتلة متصارعة على خير الطبيعة الشحيح و الضنين ،على أساس الوطن . فالقبيلة متحركة لا تعرف وطنا و حدودا قومية ، و لا على أساس العنصر و إلا تقاتلت العناصر حتى الفناء ، لقد قرب الإسلام بينهم فى صيغة تلائم ظروفهم ، فالقبيلة كلها كانت على استعداد لأن تفنى عن بكرة أبيها من أجل فرد فيها ، و الفرد فيها ترس فى آلة متكاملة هو جزء منها خاضع لها ، لا يعرف ولا يرى فى غير قرابته سوى أعداء محتملين دوما، و ما كان ممكنا أن تخضع قبيلة لسيادة فرد من قبيلة أخرى ،و هو ما فطن اليه ابن خلدون فقال ان العرب لا يجمعهم إلا دين و نبى تخضع له أنوفهم المتكبرة، تجمعهم فكرة و أهداف مشتركة و مصالح، يخضعون لسيادة نبى لأنه لا ينسب لقومه بل للسماء التى هى فوق كل القبائل ،لذلك جاءت صيغة الكونفودرالية العربية تركب ايديولوجيا دينية موحدة واحدة ،تجمع كل الأشتات على قرابة واحدة،فيصبح كل العرب أبناء رجل واحد يصح لأى منهم ان يسود و يملك، فكلهم أبناء إسماعيل بن ابراهيم ، لذلك يرذل الشيخ قرضاوى الدولة الوطنية بعد أربعة عشر قرنا فى مكان و زمان مختلفين عن ذلك الزمن البدائى الأول بالمرة.
من هنا أصبح المتميزين بدين الإسلام طائفة جديدة خاصة بغض النظر عن قبائلهم و ألوانهم و أصبحوا أمة من دون الناس ، تختلف و تتميز عن غيرها من الأمم، بل هى خير الأمم،لأنها المكلفة بحمل الرسالة إلى العالمين.
إذن فأولا و أساسا لا يتم التساوى بين المسلم و غير المسلم فى الشريعة الإسلامية فلا مجال لحديث هنا عن مساواة فى وطن واحد يعيش فيه مسلمون و غير مسلمين تحكمهم الشريعة الإسلامية .فالناس حسب هذه الشريعة أصناف و رتب و منازل و درجات و طبقات تختلف بينها الحقوق و الواجبات،فهناك الأولون السابقون و هناك المبشرون بالجنة ،و هناك أهل بدر الذين غفر لهم ماتقدم من ذنبهم و ما تأخر،و هناك العربى العدنانى و العربى القحطانى ،و القرشى و غير القرشى ،و داخل قريش الهاشمى و الأموى و غيرهم،و هناك الرجل و المرأة،و هناك السادة و العبيد ،و هناك الموالى الذين أسلموا فى البلاد المفتوحة،و هناك أهل الذمة ،و هناك العبد المسلم والعبد غير المسلم ،و لكل من هؤلاء درجة و حقوق وواجبات تختلف عن درجة الأخر لذلك تضخمت الشريعة الإسلامية بالأحكام الكثيرة الهائلة عددا، ترتيبا على حقوق تلك المنازل و المراتب الاجتماعية العديدة المفرطة فى تراتبيتها وأحكامها وفق هذة التراتبية.
فأى مساواة فى شريعة الإسلام يتحدث عنها قرضاوى؟ ان المساواة اليوم تختلف بالمعنى و بالظرف و بالزمن بالكلية عن معناها الأولى فى الشريعة ، التى يجب أن نحترمها و نعترف بها وبأنها كانت تتناسب ظروف زمانها،لكنها لم تعد تناسب ظروف زماننا ،و ليس فى ذلك انتقاص منها ، فقد أدت دورها فى حينه و أثبتت نجاحها الذى صيغت من أجله و حققت مبتغاها فكانت صحيحة بمقاييس زمنها.
هذا ماكان عن دستور المساواة الذى يطلبه لنا قرضاوى من أعماق زمن سحيق ،بل و يؤكد أن هذا الدستور هو الضامن للحرية الانسانية.
ان الشيخ يحدثنا عن الحرية و لديه ثلاث و عشرين آية تتحدث عن العبودية و الرق و ملك اليمين،ناهيك عن رتل هائل من أحاديث أحكام الرقيق،اضافة إلى ما يدرسه عيالنا فى معاهد الأزهر من فقه كامل للرقيق على المذاهب الأربعة السنية ،فعن أى حرية يحدثنا الشيخ؟
لقد سبق لصاحب هذا القلم أن طالب السادة المتفيقهين و الأزاهرة أن يعلنوا موقفا واضحا بتم بموجبه الإعلان عن إيقاف العمل بحدود و فقه الرقيق، بتعطيل أحكام الآيات ، أسوة بصحابة و فقهاء سابقين، بعد أن عطلها تطور القيم الإنسانية فى العالم، فلم تعد صالحة لكل زمان و مكان كما يوهمون بسطاء المسلمين ، و ان إعلان هذا التعطيل بأيدى فقهائنا أجدى فى شئون كثيرة من فرضه فرضه علينا بقوة القوانين الدولية و الضمير الإنسانى .
و لم أسمع من يومها غير التكفير و التخوين التبخيس و حرب الإشاعة غير النظيفة، كما لو كنت أطالبهم بشىء إداً أو مستنكراً أو دعوة لشر، لقد كانت دعوتى هى الخير نفسه بغض النظر عن اتهامات مشايخنا عندما لا يجدون ردا محترما.
و يبقى السؤال الهام هنا ،هلا يعلم الشيخ كل ما نعلم و زيادة بشأن المساواة من عدمها و الحرية من عدمها فى شريعة الإسلام و تاريخه؟ فإن كان يعلم و لا شك أنه يعلم فكيف نصنف ما قال؟ الإجابة واضحة لا تحتاج تعليقا.
أما قوله و هو يرفض المواطنة :”ان دار الإسلام هى الوطن الإسلامى ،و هى بلا رقعة” ،فهو ما يعنى أن الشيخ لا زال يرى أن دار الإسلام هى العالم كله(بلا رقعة) ،لأن دعوة الشيخ كما هى واضحة:الإسلام دين و دولة ،و الإسلام دين عالمى، فتكون النتيجة الواضحة:أن العالم هو دولة الإسلام ،و هو مايعنى إعلان الحرب الإسلامية على العالم كله ، فى وقت يمثل فيه المسلمون أدنى أهل الأرض للضعف و الجهل و التخلف؟
أترون الى أين يأخذنا مشايخنا يا مسلمين؟!
د. سيد القمني
2007 / 7 /22