خريطة الطريق نحو الإصلاح ( تشخيص الحالة : إنقاذ الإسلام من براثن المسلمين) ( 2 ) سقف المعرفة غاية مستحيلة
لازلنا نرصد مظاهر الحالة الإسلامية كأعراض لمرض عضال بحاجة ماسة إلى علاج ، و لعل أهم الأعراض المستعصية هي الاعتقاد السائد بين معظم المشتغلين بالشأن الإسلامي ، و هو الاعتقاد الذي عمموه بين المسلمين بامتلاك الحقائق النهائية و المطلقة ، عبر امتلاك الحكومات المسلمة لوسائل التثقيف العام من إذاعة و تلفاز و مسجد و مدرسة ، و هي أقوى عوامل تشكيل الرأى العام اليوم . هذا العرض المستعصي يقوم على اعتقاد أن السلف لم يتركوا شيئاً للخلف ليبحثوا فيه ، و أن الأمة قد عقمت من بعد خصوبة ، رغم أنها كانت خصبة إلى حد تعاصر فقهاء المذهب السني الأربعة خلال أربعين سنة فقط . و لكن لأن الزمان لم و لن يجود بمثلهم ، كما توافق علي ذلك الفقهاء من بعدهم ، فقد أصبحوا خاتمة البحث و نهاية الأزمان ، بعد أن وضعوا كل علم ممكن و انتهوا منه ، باختصار ، بلغوا نهاية العلم و سقفه الأخير . هذا رغم قصور البشرية جميعاً عن بلوغ هذا السقف ، و معرفتها أنها قاصرة عن بلوغه ، و أن هذا هو السبب الأساسي في التطور العلمي ، و الفكري النظري ، و التقنى ، و الفنى ، و الحقوقي ، و الاقتصادي ، و الاجتماعي ، و السياسي . بينما عندما يقول قوم أنهم قد بلغوا سقف العلم ، فهو ما يعني أنه لا مجال لكلام آخر ، و لا مجال لقول جديد ، و لا مساحة لقبول أي تغير . هذا كله في واد ، و الواقع قد تغير تغيرات هائلة بلغت فيه ما تحققه البشرية كل عام منذ عام 2005 ، ما يعادل ما حققته منذ وجود الإنسان على الأرض . و نصيب المسلمين من بلادهم في هذه الكشوف الهائلة كماً و كيفاً هو صفر عظيم .
إن عدم قدرة بلوغ نهاية العلم و المعرفة ، هو أس جوهرى في عملية التطور اللازمة للبشرية ، و زاد البشر على التطور الفيزيائي البيولوجي الميكانيكي الدائب و المستمر للكائنات ، أنهم تمكنوا من إعمال عقلهم في الطبيعة مما سرع بعملية التطور الإنساني بدرجات هائلة ما خطرت على قلب بشر . و من هنا فإن الاعتقاد بكمال المعرفة عند المسلمين هو عرض واضح و جلي لتردي أحوالهم هذا التردي المثير للشعور بالخزي و العار .
يعتقد المسلمون أنهم قد امتلكوا نواصي العلم كله ، وأنهم مكلفون بتعميم معارفهم على العالمين ، بل و فرضها على الكوكب الأرضي فرضاً ، و يحيلون كل النقائص إلى العالم المتقدم الذي سبقنا حقاً و صدقاً بما يقاس بالسنين الضوئية ، و يخلطون بين كراهيتنا التاريخية لهذا الغرب ، و بين مناهج هذا الغرب في التقدم و أساليبه في المعرفة و سبله للرقى و الغنى و الرفاة والسعادة .
و المشكلة التقنية و الاعتقادية في مثل هذا الاعتقاد ، هي أن المسلم ( حسبما يعتقد ) هو من سيُسأل عن أعماله وحده في نهاية الأمر ، و هو بإسناد أعماله إلى اعتقاد بكمال و تمام فقه و شريعة ، هي من علم و إنتاج بشر مثلنا يصيبون و يخطئون ، بعدما فارقت المبادئ الشرعية الأولى بساطتها إلى منطقة شديدة التعقيد بإضافات أهل الفقه و زياداتهم في دين الله . فبينما وضع القرآن ما لا يزيد عن سبع قوانين ( شرائع ) للمجتمع ، و بضع عشرات أخرى تأسيساً على الحديث ، فإن المذهب الشافعي مثلاً لديه ما ينوف علي ستة آلاف تشريع ، و مثلها في خزائن المذهب الحنفي و تتزايد في بقية المذاهب ، و هذه الآلاف من التشريعات جاءت كلها زيادة في دين الله ، و إذا كانت خاصية الإسلام هي التوحيد المطلق ، فمن غير المفهوم كيف يمكن للمسلم الجمع بين هذه العقيدة و بين خمس مجموعات مذهبية للتشريع تتضارب وتتناقض مع بعضها البعض . إن هذا الركون لأحكام وفق رؤية فقهية أو مذهب بعينه ، يجعل المسلم يعرض نفسه للمساءلة و العقوبة ، بل و ربما للتهلكة ، بل و ربما إلى الانقراض من البشرية ، و هي العقوبة التي لا يعفيه جهله بها منها .
هذا بينما المصري القديم ، كان يعرف منذ خمسة آلاف عام أن اكتمال المعرفة نقص و مرض ، أنظر ما قاله على لسان بتاح حوتب : ” أنظر كيف يمكن أن تتعرض لمناوأة الخبراء في المجلس ، إنه لمن الحمق أن تتحدث في كل ضروب المعرفة / ول ديورانت / مقدمة موسوعة قصة الحضارة / ص ح ” .
و اليوم نري المصري المسلم و قد ارتكس خلفاً إلى ما وراء زمن بتاح حوتب ، عندما قام يفسر : ” و ما فرطنا في الكتاب من شئ ” بأن القرآن قد حوى علوم الآولين و الآخرين فامتلك الحقيقة المطلقة ، و صار بإمكانه أن يتعرض لمناوأة الخبراء في المجلس ، و يظن أنه خبير يمكنه الحديث في كل ضروب المعرفة . بينما كل ما تحمله الآيات الكريمة خبراً مفاده أن القرآن الكريم لم يفرط في شئون التعبد و الدين من شئ ، و ليس التفريط في علوم الأركيولوجيا و البيولوجياو الجينولوجيا و الكيمياء و الرياضيات و إدارة الدول و نظم الحكم و أساليب الاقتصاد و حقوق الإنسان و الديمقراطية ، لأن القرآن كتاب في الدين ، كتاب في الإيمان فقط ، و حسبه ذلك شرفاً و رفعة و فخراً و مجداً و سؤدداً أزلياً أبدياً .
و قد زاد المسترزقون من كهنة على حساب المواطنين من استفحال العرض وعوص هذه المشكلة ، و تجذيرهم الاعتقاد في امتلاك المسلمين للمعرفة التمامية ، و هؤلاء المسترزقون هم من قاموا يتاجرون بمأساة المسلمين ، ليحققوا ثروات خيالية من حكاية وهمية اسمها العلم و الإيمان ، كلها عبارة عن شعر فخر و هجاء و أحاديث سمر عربية حول نيران القبيلة و بعيرها في الليالي القمرية ، أحاديث فخر ليس أكثر ، لأنها موجهة لنا و لا يعرفها أحد غيرنا ، هي سمر رتيب ممل تفخر بربنا الذي يتم وضعه وفق هذا التصور في موقع شيخ القبيلة المسلمة ( حاشاه و هو الكمال المطلق ) ، و هو شيخنا هذا الذي عرف كل العلوم القديمة والحديثة و المعاصرة التي اكتشفت و التي لم تكتشف بعد ، قبل كل العالمين ، و أعلمنا بها و وضعها لنا في كتابنا المقدس ، و لا تعلم اذا كان ذلك صحيحاً ، فلماذا لم ينتج لنا أصحاب العلم و الإيمان اكتشاف واحداً إسلامياً أصيلاً من نصوص القرآن أو الحديث ؟ كي نسبق به العالم و نفيد به بلادنا المعتوهة لكثرة ما تعاطت من مأثور تخديري أصابها ببلهنية بلهاء ، حتى كادت تصل حالة الموت التخشبي . الكارثة أن عملية التهجين للمقدس بالعلم الإنساني كرست اعتقاد المسلم أنه بغنى عن معارف العالمين ، و عن العلوم كلها دفعة واحدة ، لأنه يعتقد أن بيديه أسرار الدنيا و مفاتيح الآخرة ، ما ذهب منها ، و ما لم يأت بعد ، و دون أن يجد المسلمون بعد كل تلك الأبحاث في العلم و الإيمان أي شئ ذي قيمة بين أيديهم .
و لأن الإسلام و علومة ليسا حكراً على طائفة بعينها دون المسلمين ، فإن الرهاب المكرس لعدم تجاوز فقهاء الأمة ، لم يوقف هؤلاء الفقهاء أنفسهم عن نقد سابقيهم و نقضهم ، و هو ما تجلى في رد أبي حنيفة النعمان على هذا المبدأ الباطل : ” هم رجال و نحن رجال ” ، فليس بين المسلمين آلهة و لا أنبياء بعد أن ختم محمد ( ص ) تواصل السماء مع الأرض . و من ثم فإن أول مطلب في روشتة العلاج هو الاعتراف بالمرض ، و أن التراث الإسلامي قد أصبح يحمل أوراماً سرطانية و اثقالاً كسحته عن مسايرة حركة التطور ، و أنه يجب أن يخضع لعمليات جراحية عاجلة مع تقويم و مراجعة و نقد قاسي ما أمكن ، لكن بشرط التزام العلمية الصارمة دوماً ، مع الفحص و التعديل و الإلغاء و الإضافة و الحذف ، مداً لحبل حكمة النسخ في الوحي ، و هي حكمة التدرج في الأحكام إلى مداها الطبيعي ، و هو التدرج الذي يقوم على مقاصد الشرع الكلية .
و لو صح أن اجتهاد فقهاء السنة الأربعة ، و بقية المذاهب بما فيها الجعفري ( الشيعي الإثنا عشرى ) ، أنها قد وصلت إلى سقف المعرفة ، و أنها أصبحت صالحة لكل زمان و مكان ( و هي آفة فكرية لا يقول بها عاقل ، فلا شئ صالح لكل زمان و مكان بالمطلق ، و قولاً واحداً ، و لا يقول بذلك إلا من جهل أنه جاهل ) ، و لو صح أن ما صلح لزمنهم صالح لزماننا ، فلماذا نحن أمة الله المتخلفة دون العالمين ؟
و مع اعتقاد المسلمين بصحة هذا المبدأ الباطل ، تم إغلاق باب الاجتهاد دون إصدار أى أوامر بإقفاله ،لأن إغلاقه قد أصبح من مستلزمات الشريعة و خصائصها دون صدور قرار بذلك ، بعد أن أصبح غير ممكن تجاوز من وصلوا سقف المعرفة . و بدلاً من أن يعتبر المسلمون رجالات مأثورهم بداية لطريق تطورى اجتهادي طويل ، اعتبروهم نهاية الطريق ، فضرب الشلل كل مراكز التفكير في العقل المسلم . ماذا يمكن أن يقول المسلم لمن يقولون له : قال ابن تيمية ، و قال البخاري ، و قال عمر بن الخطاب ؟ هل سيخطر على بال مسلم أنه مطلوب منه أن يقول شيئاً بعد ما قال هؤلاء المقدسين ، ناهيك عن مخالفتهم أو إعمال العقل في نقدهم ؟ وفق هذا المعنى لابد أن يصاب اللسان بالخرس ، و يموت السؤال ، و يضرب الذهان مراكز التفكير، فلا يعود المسلم يميز بين الممكن و المستحيل ، فيضرب بإرهابه العالم متصوراً أنه سيسود العالم و يقيم دولة الله في أرضه ، و هو من بين أشد شعوب هذا العالم ضعفاً و جهلاً و تخلفاً !!
و بدلاً من أن يعتبر المسلمون أن تدرج التشريع درس لهم ليمدوا طرف الخيط على استقامته فيتدرجون بل و ربما ينسخون كثير من التشاريع مع المتغيرات ، حتى يبقى تشريعهم حياً فاعلاً ، فقد اعتقدوا أن هذا التدرج خاصية قرآنية ربانية لها علاقة بتواصل السماء مع الأرض عبر الملاك جبريل إلى نبيه ( ص ) ، و أن هذه الخاصية قد توقفت بتوقف الوحى بوفاة صاحب الدعوة ، و من ثم قرروا الوقوف عند آخر أحكام تطورت إليها نصوص الوحى ، و جعلوها أحكاماً نهائية ، قدسوها و جعلوها حكم السماء الأخير القاطع ، الذي لا يجوز تجاوزه على تغير الأحوال و اختلاف الأماكن و تبدل الأزمان ، هذا بينما ( الفقه ) نفسه يقوم على أسس نظرية لم يقم هؤلاء العارفون بالمطلق بتفعيلها فيما يبدو عن قصد و نية مبيتة للمسلمين ، فالفقه الإسلامي ” لا ينكر و لا يستنكر تبدل الأحكام و تغيرها بتبدل المكان و اختلاف الزمان ” ، و هو ما استند إليه الإمام الشافعي عندما غير من فتاواه في زمن واحد ، ما بين وجوده في العراق و بين وجودة في مصر . و من أبرز الأسس النظرية المعيارية المفترض أنها حاكمة ، الأساس الذي يجعل ” الحكم يدور مع العلة وجوداً و عدماً “، و لا تفهم كيف يتم التجاوز عن هذه الأصول من فقهاء يركزون على ظاهر اللفظ و حرفية النص ، و يظلون فقهاء ؟ لا تعلم كيف ؟ ثم لا تعلم كيف أمكن لهم تضليل المسلمين كل هذا التضليل لمنافع و مكاسب دنيوية بحت ، و مكانة اجتماعية مرموقة ، و سلطة سيادية برغبة الرعية ، بدليل استكانة المسلمين إلى هذه المفاهيم التي تبدو ديناً جديداً غير ما نعرفه عن الإسلام في بكارته الأولى ، و عدم احتجاجهم على مشايخهم بل و تقديس هؤلاء الفقهاء ، فأى نازلة نزلت بنا أيها الناس ؟ !!
ضمن و بين هذه الأسس فلسفات في الإسلام و التشريع سبقت زمنها فتم قبرها لأنها كانت أكثر حرية من ممكنات احتمال الفقهاء الآخرين حينذاك ، فلسفات فقهية اعتبرت الانسان هو غرض الله و غرض الرسالة ، و ليس الغرض مجرد العبودية لله ، فالله أكمل من ذلك و أرفع من ذلك و ليس بحاجة لعبيد ليتأله عليهم و يستعبدهم فيعبدون ، وأن الكتب المقدسة جاءت إلينا من أجلنا و ليس من أجل السماء ، لتيسير معاشنا لا لتعقيده ، و لجعل الدنيا أكثر راحة و طمأنينة و يسر، إسعاداً للبشر لا إثارة لكآبتهم و حزنهم رعباً من مكر الله و جهنماته المتنوعة ألواناً و أصنافاً من العذاب . فلسفة تعبتر الإيمان نعمة و سعادة لا اختباراً و امتحاناًُ عسيراً و مشقة و عنت و نقمة متربصة تقف من ورائها فكرة المكر الإلهي ، الذي كان يخشاه أعدل الخلفاء ( عمر بن الخطاب ) ، مع الفزع من جهنم و زبانيتها .
نظرة قامت على التفلسف أكثر مما خضعت لشروط الشافعي المستحيلة الواجب توافرها في المجتهد ، اعتمدت أكثر علوم الفلسفة جدلاً و حرية ، علم الكلام ، لتقيم عليه نظريتها الفلسفية الفقهية .
من بين هؤلاء الفقيه اللمعة الثاقب (نجم الدين الطوفي الحنبلي) ، الذي تجرأ على كسر أهم القواعد الفقهية ( لا اجتهاد مع النص ) فأباح الاجتهاد حتى مع النصوص الواضحة القاطعة المجمع بين الفقهاء على قطعيتها الثبوتية : النصية و الدلالية ، استناداً لاجتهادات الخليفة عمر مع نصوص قرآنية و حدود تشريعية ربانية قاطعة ، بالتعطيل و بالمخالفة و بالإلغاء ( كما في إلغائه فريضة متعة الحج و فريضة متعة النساء و فريضة المؤلفة قلوبهم ). لإختلاف المصالح بدوران الأزمان ، و من ثم قدر الطوفي أن رعاية مصالح الناس تعلو على النص و الإجماع و تقدم عليهما ، استناداً لقول النبي ( ص ) : ” لا ضرر و لا ضرار ” ، ثم لدينا نجم عظيم آخر من فقهاء اليسر و البهجة الذين أوسعوا من صفحات الاجتهاد نحو مزيد من الحرية هو ( الباقلاني ) ، الذي قلما يعرج إليه رجالات أزهرنا المبارك الشريف ، اشترط هذا الرجل للاجتهاد الصحيح التضلع في الفلسفة أو بالذات ( علم الكلام ) ، و اعتمد علم المنطق الأرسطي معياراً للاستنتاج الصحيح ، و لم ير في ألوف المباحث الفقهية العجييبة المتكاثرة و شروطها الأعجب المتناثرة أى ضرورة ، كل ما طلبه للمجتهد هو أن يعرف القواعد العامة لأصول الفقه و المعروفة بالمقاصد الكلية للشريعة و ما أيسرها ، لأنها تتلخص جميعاً في جملة واحدة هي : مصلحة العباد .
و ما أبكر مثل تلك المحاولات العبقرية التى تم إهالة الإهمال عليها ، حتى كادت لا تجد لنفسها مكاناً في أحاديث مشايخنا رغم ركوبهم إعلامنا ليل نهار، فهذا الإمام ( الجويني ) في القرن الثاني عشر ميلادي ، يؤكد أن المعرفة بمقاصد الشريعة كافية وحدها كأساس في الاجتهاد ، بتنزيلها على واقع الزمان و مستجداته و مشكلاته التي لم تكن معلومة من قبل ، و الغرض من هذا التنزيل هو مصلحة الناس أولاً و أخيراً ، و هو كله ما يقوم على مدركات عقلية بالأساس و ليست نقلية و لا نصية .
من هنا ساغ للجويني الثاقب اللماع بين الفقهاء و( إمام الحرمين ) أن يرنو للمستقبل ليراه و هو يتطور في قفزات هائلة ، حتى يأتي زمن على الناس لن يعملوا فيه بأصول الشريعة الإسلامية حتى تصبح الشريعة تاريخا غير فاعل ، و ربما غير موجودة نتيجة مفارقة الواقع لها ، لأن الواقع يتغير و يتطور بالضرورة دون أن ينال النص الديني ذات التغير و التطور . و من هذه الرؤية المستشرفة للمستقبل ينتهي الجويني بجرأة نادرة و بفرادة سبق بها زمنه إلى نتيجة غير مسبوقة ، و للأسف غير ملحوقة بين الفقهاء ، ينتهي الجويني إلى ضرورة تهيئة العقل المسلم و ترويضه حتى يمكنه التعامل مع ذلك الزمن الآتي بمنطق ذلك الزمان الآتي دون منطق الشريعة .
و منطق ذلك الزمان الآتي لاشك سيقوم على العقل ذاته و هو يمارس وظيفته ، لذلك يجب تدريب العقل المسلم على قبول الزمن الآتي ليتمكن من الحياة فيه و الفعل فيه ، و إن غابت نصوص الشريعة ، و يكفي المسلم أن يكون عالماً بالمقاصد الكلية للشريعة ، و هذه المقاصد تحديداً و تدقيقاً هي مصلحة البلاد و العباد ، و ها قد أتى ذلك الزمن الآتي الذي كان يتوقعه عن يقين و ترقب توقعه إمام الحرمين .
و بعد حوالي ثلاثة قرون احتاج الزمن المزيد من التنبيه إلى ضرورة التغير و التجديد و التحديث فظهر الإمام ( الشاطبي ) و ما أدراك ما الشاطبي ؟ ! في جمل سريعة لا تعرض من هو الشاطبي الذي سبق زمنه و تجاوز فقهاء أزهرنا مجتمعين ، هو الذي أقام اجتهاده الفلسفي عوداً إلى فكرة المقاصد الكلية للشريعة ، فقام يستخرج من الشريعة مقاصدها بنوداً واضحات ، التي هي مصالح العباد دنيا و آخرة ، و أخضع هذا الاستخراج لمقدرات و لعادات واقع زمانه طالباً التبديل و التعديل وفق متغيرات الزمان و تقاليده و بشروط زمانه و مكانه ، لذلك اشترط الشاطبي علي الفقيه في الزمن الآتي أن يكون عارف بعلوم عصره و متصلاً بواقعه ( ترى كم من فقهاء اليوم يدري شيئاً و لو يسيراً عن علوم عصرنا ؟ ) ،حتى ينزل مصلحة العباد أى المقاصد الكلية للشريعة على هذا الواقع ، ليحثه نحو مزيد من المصلحة . و ارتأى أن الفقه بحاله حتى زمانه هو لون من الإجابات المعدّة سلفاً لكل مسألة حدثت أو قابلة للحدوث أو متخيلة ، و الفقه بهذه الإجابات المسبقة لا يقف بهذا المعنى نداً للزمان الذي جاء بأسئلة جديدة لم تخطر على خيال فقهائنا القدامي ، و ليس لديهم إجابة عنها لأنها لم تكن قد وجدت بعد ، لذلك لابد أن يختلف الحكم بحسب ظروف الواقع ، مع مراعاة أن الأصل في الأشياء هو الإباحة و ليس التحريم . و هو ما يعني تفسيراً دقيقاً لمعنى الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر ، فالمعروف هو ما تعارفت عليه قيم و عادات زمانه ، و المنكر هو ما أنكره العرف الاجتماعي و قيم زمانه . و من ثم لم يعد المعروف أبداً من أصول الشريعة بحسبانه يعني الدعوة إلى الإسلام و شريعته ، أو هو إقامة دولة الله علي الأرض كما يزعمون .
و علي ( الطوفي ) و كسره الجرئ لقاعدة لا اجتهاد مع النص ، و علي (الباقلاني) و براحة العقلاني ، على (الجويني) و مساحته الحرة المنطقية العقلانية الصرف ، و على (الشاطبي) و طلاقته المصلحية ، و أن الأصل في الشرع كله هو الإباحة تيسيراً على العباد الذين تشكل مصالحهم الهم الأول للفقيه ، سنكمل مشوارنا الآتي مع خريطة التشخيص و الإصلاح .
د. سيد القمني
2007 / 3 /11