قمة ال (17) 1 من 4
في انتصارات سريعة كاسحة, تمكنت أسراب الجيوش العربية من احتلال العراق وفلسطين والشام, استخدم فيها الغزاة القوة والقسوة المفرطة, وهو تعبير حديث مخفف عن المجازر والمحارق الهائلة التي نفذها الغزاة بحق شعوب البلاد الموطوءة, مع عمليات نهب يندر في التاريخ الإنساني مثلها, إضافة لنموذج تلك الجيوش الفريد في استباحه الأعراض وسبي الذراري والنساء في مواقع كثيرة حاول فيها اهالي البلاد المفتوحة الدفاع عن ممتلكاتهم أو أعراضهم.
وفي يوم تاريخي استتب فيه الشأن ليثرب , لتتحول من موطن لتجمعات قبلية الي عاصمة لأمبراطورية في زمن قياسي, اعلن الخليفة عمر بن الخطاب عقد قمة للنصر, دعي اليها كل من عبد الرحمن بن عوف , والزبير بن العوام , وطلحة, وبلال بن رباح ومعاذ وعلي بن ابي طالب وابن عمر، والسبعة كلهم من قريش , اضافة الي خمسة من الأوس ، ومثلهم من الخزرج ، ممثلين للانصار ، لتنعقد في جبين التاريخ القمة الإسلامية الثانية بعد قمة السقيفة ………..هي قمة الـ (17).
ان اجتماعا بمثل هذا المستوي الرفيع , وبمثل القدسية المشتملة تحت اسماء حضور القمة ومكانتهم في الدعوة ومكانهم بين العرب, لاشك كان لبحث مسئوليات جسام بعد تلك الفتوحات الميمونة المباركة. وأيضا لاشك أنه كان بغرض هدف عظيم من أهداف الدعوة والأمة والدين. وايضا لاشك بالفرض الحتمي ان اجتماعا بهذا المستوي كان سيضع نصب عينيه تداول ما تم انجازة من اعمال الجهاد, وتقييم تلك الأعمال ، لدرس ما امكن تحقيقه من اهداف سامية مقدسة. وأيضا لاشك بالفرض انه كان علي جدول الأعمال النظر في مختلف الطرق لإبلاغ العالم كله بالدين العالمي الجديد, وتبليغ البشرية في كل المعمورة باهدافه السامية ومقاصده الشريفة وتفاصيله النبيلة. ترغيبا لسكان العالم للمسارعة في اللحوق به.
بالفرض أيضا لابد ان تكون القمة قد أدرجت علي بنودها مناقشة امكانية تشكيل لجان متفرغة من كبار الصحابة الأجلاء, لكتابة المصاحف التي ستحتاجها البلاد المفتوحة ليعرف اهلها تفاصيل دينهم الجديد, مع لجان أخري تكون من مهامها القيام بوضع الشروح والتبيان والترغيب, بالفرض كذلك ربما لا يفوت هذه القمة مدارسة إمكان افتتاح كتاتيب في البلاد المفتوحة , وتزويدها بالفقهاء والمعلمين المتخصصين من صحابة رسول الله, كرامة لهم وكسبا للثواب. وربما أمكن التفكير في تشكيل لجان تقوم بنسخ المقدس الاسلامي وترجمته, مع تكليف فريق آخر للقيام بمهمة الوعظ والارشاد في البلاد الموطوءة, وان يعملوا بقوت يومهم فقط, رغبة في الثواب الأعظم عند الله تعالي.
ربما أيضا لو اتسع الوقت في هذا الاجتماع التاريخي, وما أوسع الوقت أيامهم, ان يتم وضع الخطط لإقامة المعاهد الإسلامية في مكة والمدينة لاستقبال البعثات الوافدة من البلاد الموطوءة ، طلبا للتفقه في الدين ودرس اللغة العربية واصولها ، وهو ما يستتبع التفكير في توفير سبل الإقامة لهم بانشاء مدينة للبعوث القادمة من بلاد الكفر الي الأرض المقدسة, حتي يعودوا الي بلادهم مسلمين صالحين عارفين مجتهدين, مع امكانية فتح فروع لمعاهد الجزيرة في العواصم المفتوحة, للقيام بذات المهمة السامية الشريفة.
وبالفرض ايضا كان لابد ان يدرج علي جدول اعمال هذه القمة ، بحث تأهيل العاصمة لاستقبال ابناء الطبقات الأرستقراطية في البلاد الموطوءة ، لتثقيفهم بالإضافة الي الدين باصول البروتوكول العربي والإتيكيت والأدب الإسلامي ليتأدبوا بأدبه, ليكونوا عند عودتهم الي بلادهم سفراء للعرب وللاسلام. كما كان يفعل الفراعنة عندما كانوا يأخذون أبناء الملوك والارستقراطية الي مصر, ليثقفوهم بثقافتها فيربونهم بالقصر الملكي مع الحاشية الملكية ، لاحداث تقارب ثقافي يضمن ولاء الاجيال التالية لمصر عندما يعودوا حكاما علي بلادهم, مما ينتهي الي تعايشهم معها في سلام. وقد كان العرب علي اتصال بتلك الحضارات المحيطة ببلادهم, وكانوا يرسلون أبناءهم قبل الاسلام لتلقي المعارف في بلاد تلك الحضارات ، فعلموا سيرتها ومناهجها, فكانوا يذهبون للدراسات الأولية في مدرسة جنديسابو الشهيرة. ليلتحقوا من بعد بالتعليم العالي في جامعة الإسكندرية المصرية الأشهر, وقد وصلنا من كتب السير والأخبار أسماء لعرب أثرياء درسوا في تلك المعاهد والجامعات ، مثل : النضر بن الحارث وعقبة بن ابي معيط اللذين تم قتلهما أسري في وقعة بدر الكبري, وهو ما يفيد بمعرفة العرب بشأن المدارس ومعاهد العلم ولم تكن شأنا مجهولا لديهم.
علي جدول الأعمال لابد أن نفترض بنودا وضعت نصب أعينها أهداف هذا الدين القيم لجلوها نبيلة مضيئة خلابة, كاتخاذ الإجراءات السريعة الكفيلة برفع الجور والظلم عن كاهل الشعوب المفتوحة, التي عانت كما تقول كتب التاريخ العربي من ظلم حكام الطاغوت فرسا وروما, بإقرار العدالة في تلك البلاد وترسيخ المساواة والإخاء بين شعوب الإمبراطورية ، تحقيقا لمبدأ ” كأسنان المشط ” وإعمالا لقول النبي ” كلكم لآدم, وآدم من تراب ” ، بدءا بتخفيض الجباية عما كانت علية زمن الطواغيت لرفع المعاناة عن المعوزين والضعفاء. ثم تأسيس المساواة بتحرير عبيد البلاد المفتوحة المستذلين ، مما يكسب الفاتحين صيتا يليق بدين الحرية والإخاء والمساواة والعدل بين الناس, لتحقيق مبدأ لا فضل لعربي علي أعجمي ، وهو أمر يسير لن يخسر العرب معه شيئا.
كان محتما أيضا ان يتذكر حضور القمة خاصة الاعضاء القرشيين السبعة ، معاناة مهجرهم من مكة الي المدينة, ومؤآخاتهم مع الانصار باقتسام الطعام والمسكن والزوجات ، فيرفقون بأبناء الشعوب المفتوحة لتجنيبها مرارة التجربة التي خاضها الصحابة الكرام البررة ، احقاقا للعدل , باعادة توزيع الثروات بين الناس في تلك البلاد وفق المبدأ الاسلامي الرفيع في المؤآخاة, دون أن يخسر الفاتحون شيئا, بل أن كسبهم لدينهم ومبادئهم هو النتيجة المحتومة ، وحتي تكتسى الدعوة الاسلامية النزعة الانسانية التي تبين فضل الاسلام علي غيره من الأديان , مع تبيان فضل الاستعمار العربي علي غيره من ألوان الاستعمار الشركي الطاغوتي , تحفيزا لهذه الامم للدخول في دين الله افواجا.
كل هذه الفروض البسيطة التي تؤكد الدين وتنشر قيمة لم يكن أيا منها علي جدول أعمال هذه القمة القدسية المشرفة!!! فلم ينشغل الأعضاء لا بإرسال القرآن ، ولا الشراح ، ولا الدعاة, ولم يخطر لأحدهم استجلاب البعوث لمكة والمدينة لتلقي العلم, لانه وحتي بعد انجلاءهذا الاجتماع التاريخى, وإلى زمن طويل بعده, لم يرد من البلادة المفتوحة الي الحجاز سوي الذراري والسبايا الحسان ، لركوبهن … وليس لتفقيههن في الدين. بينما ذهب ملوك العرب وامراؤهم في زماننا هذا ليتلقوا العلم في بلاد الغرب, وتخرج أكابرهم من أكاديميات كبري مثل سانت هيرست في بريطانيا ، ولم يركبهم أحد هناك ، علي الأقل فيما هو معلوم ومعلن!!
هنا فجوة كبري هائلة بين تصوراتنا اليوم وبين تصورات ذلك الزمان البعيد ومفاهيمه, لان كل الافتراضات المبنية علي مفاهيم اليوم حول ما كان واجبا أن تهتم به قمة الـ (17) ، لم تكن في مخزون العربي الثقافي في تلك الازمان . ويزداد ابتعاد المفاهيم الاسلامية عن تلك الفروض عندما نتذكر ان ذلك الذي حدث كان في القرن السابع الميلادي , قد حدث في مكان من نوع خاص ، وانه لم يحدث في روما وقوانينها ولا فى اثينا وديمقراطيتها ولا في الاسكندرية وعلومها ولا في بيروت وابجديتها ولا في جنديسابور ولا في نينوي ، وانما كان في بلاد كان اهلها يأكلون بعضهم ويغزون بعضهم ويركبون بعضهم ، حتي جمعهم الاسلام محولا طاقاتهم العنيفة نحو خارج الحجاز، ليأكل بهم كنوز كسري وقيصر حسبما أكد الحديث النبوي التنبؤي.
لقد كانت قمة الـ(17) قمة هامة بلا شك بل هي القمة الثانية في تاريخ الصحابة بعد قمة السقيفة , كانت قمة مصيرية تأتي بعد الفتوح والانتصارات لتتوجها, وهي بمعني من المعاني تعادل في ظرفها الموضوعي ، قمة الحلفاء بعد انتصاراتهم في الحرب العالمية الثانية, و لكن في زمن مختلف وثقافة مختلفة ، بل ان العرب كانوافى زمانهم يتخلفون درجات عظمي عن ثقافة ناس زمانهم في محيط الجزيرة الحضاري الذي احتلوه .
فقد اثمرت قمة الحلفاء المنتصرين في 12 اغسطس عام 1949 ميلادية عن اتفاقيات ومواثيق لحماية الإنسانية من حروب أخري ، وعن الأمم المتحدة, وعن مواد في مواثيق جنيف , ومنها المادة (14) التي تؤكد انه ” لأسري الحرب حق احترام اشخاصهم وشرفهم في جميع الاحوال ويجب معاملة النساء الأسيرات بكل الاعتبار”, والمادة (34) التي نصت علي أن ” يترك لأسري الحرب حرية كاملة في ممارسة شعائرهم الدينية الخاصة بعقائدهم, كما تعد لهم اماكن مناسبة لاقامة شعائرهم الدينية “. وهو ما يضمن للمهزوم الحفاظ علي دينه وشرفه وعرضه ، وان من قرر ذلك هم المنتصرون الذين اتبعوا ذلك بمشروع مارشال لدعم المهزومين علي كل المستويات ، لإعادة تعمير مادمرته الحرب في البلاد المهزومة.
اذن ومع مراعاة فروق الزمن وفروق الثقافات يمكن مراجعة مادار في هذه القمة التي حضرها اشخاص مقدسين في تاريخ الاسلام ، خاصة التيار السني الذي يري نفسه نهاية واكتمال كل حضارة سامية ونبيلة ممكنة.
كان علي جدول أعمال قمة الـ (17) أربع بنود فقط تلخص موقف العرب الفاتحين ومفاهيمهم وطريقة تدينهم وتقواهم، أربع بنود كان سببها اربع رسائل وصلت الي الخليفة العادل عمر بن الخطاب. وهي علي الترتيب:
البند الاول: كتاب سعد بن أبي وقاص الي الخليفة ينبئه بأن الناس (أي العرب الفاتحين) قد سألوه أن يقسم بينهم مغانمهم وما أفاء الله عليهم . والبند الثاني كان كالأول كان مدارسة كتاب أبي عبيده بعد فتح الشام يخبر الخليفة ان المسلمين الفاتحين قد سألوه أن يقسم بينهم “المدن وأهلها” ؟؟!! وكان البند ثالثا مثل أولا وثانيا ، فكان طلب الجند الموفدين من الجيش الفاتح للعراق بنصيبهم. ومثل أولا وثانيا وثالثا كان البند رابعا ، كان مدارسة طلب بعض الصحابة أن يقسم الخليفة الأرضيين المفتوحة علي الصحابة كما كانت تقسم غنيمة العسكر, كما حدث في خيبر.
الملحوظة التي تفرض نفسها هنا أن الرسائل الاربعة قد أجمعت علي الكلام نفسه ، وعلى المطاليب ذاتها . من كان بالشام أرسل يطلب ما طلبه من كان بالعراق, ولم يكن عندهم موبايلات ولا وسائل اتصال بينهم ليتم الاتفاق علي هذه المطاليب بهذا التوافق الدقيق, وهو ما يفصح عن كون هذه المطاليب كان من المسائل المنتهية ، المتفق عليها سلفا ومفروغا منها لأنها قواعد جهادية عسكرية تم تطبيقها من قبل, وان تقسيم الأرضيين هو شرع وسنة عن النبي كما فعل في توحيده بلاد الحجاز وخاصة ما حدث في خيبر. لكن ذات الصحابة قد خاضوا مع نبيهم فتح مكة, وكان أهلها هم الطلقاء؟ فلماذا لم يتصور أيا من الصحابة في مصادرهم الاربعة إمكان معاملة البلاد المفتوحة بمادة مكة؟ خاصة اذا اخذنا بالحسبان ان شعوب البلاد المفتوحة حتي الفتح كانوا هم الاقرب الي صحيح الدين بالمفهوم الاسلامي ، فقد كان معظمهم علي آخر ديانة سماوية رسمية هي المسيحية, اي كانوا علي الدين الصحيح حتي زمن الفتوح, بينما كانت مكة أكبر معقل في العالم حينذاك للوثنية والجهل والتوحش.
د. سيد القمني
2007 / 1 / 31